تقديم:
بتعيين خير الدين بيلرياي " أصبحت الجزائر إحدى الولايات الثلاث للإمبراطورية العثمانية وأصبح لبايلر باي الجزائر بمقتضى هذا التعيين حق التصرف المطلق في الجزائر مع الإشراف على إقليمي تونس و طرابلس، لكن هذا الإشراف لم يدم طويلا فقد ألغى العثمانيون نظام البايلر باي سنة 1588م خوفا من أن يفكر هؤلاء الولاة في الإنفصال فأصبحت الجزائر ولاية عادية يعين على رأسها باشا تغيره الأستانة كل ثلاث سنوات[2].
لم يهتم الباشوات بشؤون الرعية بل انصرف همهم إلى جمع اكبر قسط من الأموال في انتظار مدة الولاية، وبذلك انتقلت السلطة من أيديهم إلى ضباط الجيش الذين بدأ نفوذهم يتعاظم تدريجيا مع بداية سنة 1659م، وأصبح حكام الجزائر العثمانية يعينون من بينهم ضابطا برتبة أغا كحاكم فعلي على الولايات غير أن هذه المرحلة لم تطل مدتها و ذلك لأن الأغا لم يكن يستقر في منصبه أكثر من شهرين نتيجة للتنافس الشديد بين الضباط على الحكم[3].
فكانت الجزائر خلال الفترة من 1518-1671م إيالة عثمانية تتلقى المساعدة المالية و العسكرية من الخلافة و قد اهتم الحكام في هذه المرحلة بتوحيد الجزائر سياسيا و ذلك بالقضاء على الإمارات المستقلة وإخضاعها لسلطة مركزية مقرها مدينة الجزائر كما وجهوا جهودهم لتحرير موانئ البلاد من السيطرة الإسبانية وفرض سيطرة الأسطول على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.
مع بداية سنة 1671م دخلت الجزائر مرحلة جديدة تميزت بتولي طائفة رياس البحر السلطة، و هم ضباط البحر الذين نصبوا نظاما جديدا يتمثل في تعيين حاكم للبلاد يلقب بالداي.
و قد التزم الدايات بحفظ الإرتباط مع الدولة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية، لكنهم سلكوا سياسة مستقلة فيما يتعلق بالشؤون الخاصة للبلاد ، فالداي هو الذي :
§ يعقد الإتفاقيات الدولية
§ يستقبل البعثات الدبلوماسية ( القناصل)
§ يعلن الحرب و يبرم معاهدات السلام
لما استقر نظام الدايات تكون في مدينة الجزائر ديوان مستقل هو أشبه بمجلس الوزراء، فهناك وكيل الخرج المختص بشؤون البحرية، و البيت مالجي المختص بالشؤون المالية و رئيس أمين مدينة الجزائر و خوجة الخيل الذي كان يشكل حلقة إتصال بين الجزائريين و الحكومة.
مخطط للنظام السياسي و الإداري للجزائر العثمانية في عهد الدايات
و قسمت الجزائر من الناحية الإدارية إلى أربعة أقاليم رئيسية هي:
1- دار السلطان: كانت تضم مدينة الجزائر و ضواحيها
2- بايلك الغرب: كانت عاصمته مازونة ثم معسكر و أخيرا وهران بعد جلاء الإسبان عنها عام 1792م
3- بايلك التيطري، ضم المناطق الوسطى و مناطق جنوب دار السلطان و كانت عاصمته المدية.
4- بايلك الشرق: يقع من شرقي من دار السلطان و بايلك التيطري كان أكبر المقاطعات و الأقاليم ، و كانت عاصمته قسنطينة.
كانت هذه المقاطعات مقسمة إلى قيادات و على رأس كل منها شيخ قبيلة و كان الجهاز الإداري جهازا لامركزيا حيث أن اية علاقة للحكومة برعاياها كانت علاقة غير مباشرة، تعتمد على استعمال الزعماء المحليين لجمع الشرائب و فرض الأمن يمكن استنتاج أهم الخصائص التي ميزت الدولة الجزائرية أنذاك كمايلي:
1- لم يعد تعيين رجال الحكم قائم على الإنتخاب من طرف ممثلي الشعب فلم يكن النظام السياسي ملكيا وراثيا ولكنه لم يرتق إلى نظام جمهوري..
2- حافظ النظام الإداري على التقسيمات القبلية و الزعامات المحلية فلم تتبلور الصفة العصرية للدولة[4].
3- لم تختلف وضعية الجزائر كما كانت عليه لقبه العالم الإسلامي و لكنها كانت مختلفة كما كان يحدث و العالم الأوربي الذي تكونت فيه دول ذات حكومات مركزية أخذت تتأهب لفرض سيطرتها على العالم[5].
الحياة الإجتماعية و الإقتصادية:
عند دراسة أوجه النشاط الإقتصادي و الحياة الإجتماعية للجزائر العثمانية يلاحظ الطابع الزراعي و الرعوي الذي تمركز أساسا في الارياف و أطراف المدن هذا في حين أن الحواضر تكاد تنفرد بالنشاط الحرفي لو لا وجود قدر قليل من نشاط حرفي متواضع يهدف إلى تلبية الضرورات المنزلية و يقوم على الإكتفاء الذاتي في الأرياف. و إلى جانب ذلك لعبت التجارة الخارجية و الداخلية دورا مهما داخل البنية الإقتصادية للمجتمع الجزائري عموما و البنية الحضرية بشكل خاص[6].
لقد هيمن النشاط الإقتصادي في الأرياف الجزائرية و بخاصة النشاط الزراعي و الرعوي[7]، و فيما يخص أشكال الإنتاج، فإنها كانت موزعة على أربعة مجالات طبيعية تتمثل في المرتفعات الجبلية و التلال و السهوب و أطراف الحواضر تشكل في مجملها كلا إجتماعيا و إقتصاديا يمز الريف الجزائري والإمتدادات الريفية التابعة للحواضر.
بالرغم من تنوع هذه المناطق التي تنتحل هذا النمط من العيش فإن الإنتماء إلى الجماعة العمرانية (Communauté) يشكل الشرط الضروري لاستمرار الحياة الإجتماعية ففي كنف هذا التجمع تتحقق ملكية العضو لشروط العمل و الإنتاج أي أن إنتماء الفرد للجماعة شرط تحقيق وجوده فهي تتوسط العلاقة فيما بينه و بين الأرض و وسائل العمل، و هكذا فإن العائلة الممتدة تشرف في المرتفعات الجبلية و بشكل نسبي على الملكية الصغيرة التي تعتبر مجالها واضحا و بين حرائق الجيران و هي (أي الأسرة الممتدة) تمثل الأسرة النووية ( الصغيرة) وجودها ضمنها[8].
و تعتبر "التويزا" « Touiza » أكثر اشكال التضامن القروي شهرة و هي كثيرا ما تجد الفرصة للظهور في أراضي الأوقاف و يلاحظ أن الأب أو الأخ الأكبر في كل أسرة هو الذي يمثل أفراد أسرته في احتفالات القرية و ينوب عنها في التجمعات التي تعقد في المسجد[9].
و من أجل تأمين إعادة انتاجها فإن الأسرة تضيف إلى أنشطتها المعروفة بعض الصناعات الحرفية المرتبطة باستغلالها و التي أحيانا ما يوجه بعضها نحو السوق. أم الملكية غير المنقولة التي تتحقق من خلال الهيبة أو الميراث فرغم كونها ملكية خاصة إلا أنها تبقى تندرج تحت استحواذ العائلة.
إن وضعية الأراضي الزراعية في الجزائر خلال العهد العثماني أصبحت تتصف بمظاهر الصراع الخفي و الإحتكاك المستمر بين أسلوبين من الإنتاج، و نمطين من المعيشة مختلفين أحدهما يرتكز على الإرتباط بالأرض و حيازتها و الأخر يمتهن الرعي و العزوف عن خدمة الأرض[10].
و هكذا لم يبق من الأقاليم المحتفظة بطابعه الزراعي المتمسكة بتقاليده الفلاحية سوى فحوص المدن الكبرى و بلاد القبائل ، و شمال قسنطينة و التيطري و سهل متيجة و سهل غريس[11].
و الجدير بالملاحظة أن العثمانيين قد عملوا جاهدين على الإحتفاظ بالأوضاع السائدة، فأبقوا في غالب الأحيان ملاك الأراضي و أقروا العشائر المتعاملة معهم على الأراضي التي
ت استحوذوا عليها بغية الحصول على تأييد شيوخ القبائل و مساندة رؤساء الزوايا لهم و لم يهتموا بصفة خاصة إلا بما تذره الأرض من إنتاج و ما توفره من جبايات[12].
إن التطور الذي انتهت إليه وضعية الأرض من ناحية الإنتاج لم يكن نتيجة لسياسة معينة من طرف الحكام العثمانيين و إنما كان نتيجة تحول بطيء فرضته الأحوال الإقتصادية و ساهمت فيه الأوضاع الإجتماعية و تسببت فيه حاجة الحكام إلى موارد البلاد "إثر تزايد" الضغط الأوربي على السواحل و إنفتاح البلاد على التجارة الأوربية.
لقد نتج عن كثرة المطالب المالية وقلة الجبايات على الأراضي الزراعية وتعدد المغارم،إهمال الزراعة و تحول قسم من السكان من الإشتغال بالفلاحة إلى مزاولة حرفة الرعي وفي بعض الأحيان اضطر المزارعون إلى الثورة على الحكام و قد انعكس هذا الوضع على الحياة السياسية[13]، إذ أن تحول السلطة إلى الدايات أدى إلى تضررالزراعة، وتحول كثير من الأراضي المنتجة للحبوب إلى ملكيات للبايلك أو مزارع مشاعة بين أفراد القبائل الحليفة "قبائل المخزن" أو العشائر الخاضعة "قبائل الرعية" بعد أن انقطع سيل الهجرة الأندلسية، و تسببت الحملات العسكرية التي كانت تنطلق من مراكز البايلك لجمع الضرائب و أخذ المغارم في الحلاق أضرار فادحة بأهالي الريف و غالبا ما تمكن المحلة أو الفرقة العسكرية مدة طويلة قد تصل على ستة أشهر تتحول أثناءها الأرياف و توجب الضرائب و يعاقب العقاب الممتنعون فمحلة بايلك الشرق تنطلق من قسنطينة و تنقسم إلى فيلقين أحدهما يجوب الهضاب العليا و التل الجنوبي و الأخرى تقصد مناطق التل الشمالية المتاخمة لساحل البحر، أما محلة بايلك البيطري فتتوجه من مدينتي الجزائر والمدية نحو سهل عريب و بني سليمان و البرواقية، بينما محلة بايلك الغرب تخرج من مازونة أو معسكر نحو سهول غريس و وادي مينا وجهات السرسو و تاهرت[14].
وبظهور دايات أقوياء وأكفاء و استقرار نظام الحكم على توسع أراضي الدولة بمواطن العشائر التي ثم إخضاعها،في الوقت الذي استقرت في أوضاع الملكيات المشاعة، وبدأ قسم من الملكيات الخاصة يتحول بفحوص المدن إلى أوقاف أهلية يعود ربحها بعد انقراض عقب محبسها على المؤسسات الدينية و المشاريع الخيرية.
كما هو الحال بفحوص مدن الجزائر و البليدة و القليعة[15].
وبعد مـوت الـداي محمد عثمان باشا تولى مقاليد الحكم الداي باشا حسان (1791-1798مـ) و الداي مصطفى باشا (1798-1805مـ) اللذان انتهجا سياسة جديدة، قوامها تصدير المزيد من المحاصيل الزراعية إلى خارج البلاد عن طريق الشركات الأوربية و المحتكرين اليهود أمثال بكري و بوشناق ، في الوقت الذي كانت فيه البلاد معرضة للمجاعة نتيجة القحط الذي أضر بالزراعة في السنوات التالية 1788 و 1779 و 1800 و 1807م و1816 و 1819[16]، ويلاحظ أن السماسرة اليهود كانوا يصدرون كميات كبيرة من الحبوب أثناء هذه الفترة.
ففي عام 1793م و مثل على ذلك تم شحن مائة سفينة من ميناء وهران قدرت حمولتها بـ 75000 قتطار من القمح و 6000 قنطار من الشعير مما تسبب في حدوث اضطرابات في جهاز الحكم فاغتيل ستة دايات من مجموع ثمانية في مدة قصيرة[17].
لقد أدى الضغط المتزايد على الأرياف إلى قلة الإنتاج و إهمال الزراعة وإعلان العصيان و حدثت سلسلة من الثورات في جميع الجهات مثل منطقة جرجرة (1804-1810-1823م) و شمال قسنطينة (1804م) و الغرب الجزائري (1803-1809م) و مناطق النمامشة و الأوراس ، ووادي سوف( 1818-1823).
و قد شملت الثورات مناطق الحبوب حيث أعلنت التيجانية العصبان سنة 1818 م، هذا في الوقت الذي كان فيه الصراع محتدما مع حكام تونس من 1806م إلى غاية 1817[18]، مما أدى إلى هجرة جزء من السكان هربا من الإنتقام و تجنب لبطش الحملات العسكرية، و لم يعد الحكام يسيطرون بالفعل إلا على سدس أراضي التل الخصبة حبس بعض التقديرات[19]، حيث اصبحت ملكيات أو الدولة هي السائدة في الأرياف في الوقت الذي تركزت فيه الملكيات الخاصة بالمناطق الجبلية الممتنعة عن الحكام، و الملكيات المشاعة في السهوب الداخلية حيث تربى المواشي ولا تزرع الأرض إلا من أجل الحصول على الضروري من الأقوات و نظرا لهذه الأوضاع السيئة و الظروف الصعبة فقد فقد الفلاح الجزائري الرغبة في العمل حتى أنه، في سنة 1786م لم يجد ملاك الأراضي بسهل عنابة الخصيب من يقوم بحصاد حقولهم فاضطروا إلى التنازل عن نصف الإنتاج لمن يقوم بحصـاد القمح بعد أن تخوف كثير من الفلاحين من انتشار الوباء و فاضطروا إلى قبول الحصول على خمس المحصول بينما استحوذ عمال البايلك و الملاك المقيمون بالمدن على أربعة أخماس المحصول بدون مجهود و عليه فقد تقلصت الأراضي الزراعية وتناقصت المساحات المستغلة حتى أصبحت عشية الإحتلال الفرنسي 1830م لا تتجاوز359040 هكتارا[20].
أما النظام الجبائي المطبق على الأراضي الفلاحية فإنه لم يخرج في أساسه عن مبدأ الجباية في الإسلام[21]، و حاول الحكام رفع الإنتاج الزراعي بالإلتجاء إلى الحملات العسكرية لإرغام السكان على تقديم المزيد من المحاصيل الزراعية وباحتكار تجارة الحبوب و تسخير الفلاحين بالأرياف لخدمة أراضي الدولة لإنتاج المزيد من المحاصيل، و قد أنشأوا لهذا الغرض العديد من المظاهر العامة في مراكز الحاميات، و أقيمت المطاحن الهوائية بالقرب من المدن حيث كان قياد البايلك يكلفون بإحصاء المحاصيل الزراعية، و مراقبة مواشي البايلك، و تحديد مقدار الضرائب التي كانت تتقاضاه الدولة عن تلك المحاصيل و المواشي.