المماليك
وفي وسط الغمام الذي مر بالأمة الإسلامية ،ظهر "عماد الدين زنكي" فوحد قوى المسلمين في العراق والشام ، ولكن لم يعمر طويلا إذ قتله أحد صبيانه عام 1146 . وظهر بعد ذلك ولده البكر "نور الدين محمود" الذي حمل رسالة أبيه في حرصه على مصالح المسلمين حيث عمل على تنظيم صفوف المسلمين، كما استولى على دمشق ،الأمر الذي ساعد على توحيد البلاد، ثم امتد نفوذ نور الدين إلى مصر ، وولى صلاح الدين الوزارة الفاطمية في الحادية والثلاثين من عمره
كان لنجاح "نور الدين" في ضم مصر حاضرة الدولة الإسلامية أثره في قلق الصليبيين، فقد أصبحت قواتهم في بيت المقدس محاطة من الشمال الشرقي والجنوب الغربي . حتى أن "عموري الأول " ملك بيت المقدس أرسل سفارة إلى أوروبا يطلب النجدة وكذلك إلى الدولة البيزنطية
وعندما قامت الدولة الأيوبية في مصر على أنقاض الضعف والتحلل الذي أصاب الخلافة الفاطمية ، دبت الحياة والقوة كذلك في الجهة الغربية من جبهات المعركة ، وكان لإلتحام الجبهات وتوحيدها شرطا ضروريا ، حتى يتم محاصرة الكيان الصليبي الغريب الذي زرع في الجسد العربي الواحد ،وكانت هذه هي المهمة التي قام بها وقاد معاركها البطل العربي صلاح الدين الأيوبي
وفي العام التالي لقيام الدولة الأيوبية ،بدأ صلاح الدين الزحف على جنوب فلسطين وكان حصن "الكرك " الصليبي بجنوب فلسطين، يحكمه "ريجنالد" وهو من أقوى وأشرس أمراء الصليبيين وقد تعرض هذا الحصن المنيع لأربع غزوات من قبل صلاح الدين ، و أثناء الاستيلاء على القلعة في المعركة كان الأسطول المصري قد حقق انتصارا بحريا ضد الأسطول الصليبي في البحر الأحمر سنة 1182م الذي أجهض محاولة الصليبيين لتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة في أرض الحجاز
وعندما غدر الصليبيون المسيطرون على حصن الكرك بالهدنة المعقودة بينهم وبين صلاح الدين أغاروا على القوافل العربية، وجاهروا بالاستعداد للزحف على مقدسات المسلمين في الحجاز، و كانت تلك اللحظات بمثابة الفرصة السانحة والمنظورة لاجتثاث الصليبيين من القدس، حيث شرع في السير نحو المعركة الفاصلة والهامة عبر التاريخ وهي معركة "حطين " معركة تحرير القدس. كانت القوة الصليبية قد لبثت حينا من الزمن وهي تحجم عن لقاء صلاح الدين في معركة فاصلة ، ولما أيقنوا بأن صلاح الدين لن يترك القدس في أيديهم بدأوا في توحيد صفوفهم وتجميع فرقتهم
فدعوا لاجتماع يتم التشاور فيه، حضروه و تناقشوا على ظهور الخيل حيث قال"ريموند " أمير طرابلس ، أن الخروج خارج القدس للقاء صلاح الدين خطأ كبير بل يجب التمركز داخل الأسوار للدفاع عن المدينة، ولكن رأى الأغلبية منهم أنه خير وسيلة للدفاع الهجوم وخرجوا إلى طبريا من أجل لقاء "صلاح الدين " هناك وعندما وصل جيش الصليبيين طبريا وعددهم 63 ألفاً من الفرسان وقفوا أمام جيش صلاح الدين ، رتب الصليبيون جيشهم في ثلاثة خطوط متراصة خلف بعضها وفي مقدمتها أمير طرابلس ومن خلفه جمهور عظيم يحيط بالصليب الخشبي الذي صلب عليه جسد المسيح، لكي يثير حماسهم ، ومن خلف هذا الصف يقف ملك أورشليم ومعه فرسان المعبد وجمهور من المتطوعين الذين جاءوا من أوروبا
وبالمقابل كان معسكر "صلاح الدين " الذي شهد تنقلات القائد حيث لم يغف له جفن، يطمئن على المؤن والتسليح وكذلك على جدول الماء الذي أصبح في حوزة العرب والذي حرم الصليبيون من الاستفادة منه كما بات يذكر الجنود بالمدينة الأسيرة ويثير فيهم الحماس
وفي يوم 1 تموز سنة 1187 م في ليلة الجمعة ، التحم الجيشان ودارت رحى المعركة حيث كان لجيش صلاح الدين قوة و إرادة وعناد واستبسال في القتال لم يعهد من قبل وبالمقابل أصاب العطش جيوش الصليبيين ،كما أصابتهم حرارة شمس تموز ، وحرارة النيران التي أشعلها العرب في الغابات
وفي يوم السبت 3 تموز ، ثالث أيام المعركة، بدا جلياً أن الحرب تحسم لصالح جيش المسلمين حيث انسحبت جموع الصليبيين إلى جبل "حطين " لتتخذ منه ظهرا في الدفاع والهجوم ، ولكن جيش المسلمين كان في أثرهم ،حتى نزل" صلاح الدين " من فوق حصانه ساجدا لله مقبلا للأرض" شكرا لله على هذا النصر" حيث كان ذلك إيذانا بحسم المعركة لصالح المسلمين حيث تم قتل 30 ألفا وآسر ما يقارب الثلاثين ألفا أيضا من أصل 63 ألفا
وفي اليوم التالي: الأحد 4 تموز استولى العرب على طبريا ومن ثم فتحوا عكا حيث جابوا كافة المدن والقرى الفلسطينية وصولا لاسوار المدينة المقدسة يوم الأحد 20 أيلول 1187 م ، وأحاط بالجانب الغربي من أسوارها، وعسكر في نفس المكان الذي فتحها منه الصليبيون عام 1099 م ومكث عدة أيام في دراسة أحوال المدينة من النواحي العسكرية تخللتها بعض المناوشات المتبادلة بين الطرفين حيث قرر الانتقال إلى جانب المدينة الشمالي .
في يوم الجمعة 25 أيلول بعد خمسة أيام من بدء الحصار بعث "صلاح الدين" إلى الصليبين رسولا يقول لهم على لسانه " إنني مثلكم أقدس هذه المدينة واعرف إنها بيت الله وأنا لم آت إلى هنا كي أدنس قداستها بسفك الدماء فإذا سلمتموها لي فإنني اخصص لكم قسما من خزائني أمنحكم من الأرض بمقدار ما تستطيعون القيام به من أعمال " وانتظر الرد ولكن الصليبيين كانوا قد جمعوا ستين ألفا من الفرسان وعقدوا اجتماع مشورتهم وجاء ردهم إلى "صلاح الدين" بالتالي :" إننا لا نقدر أن نسلمك مدينة قد مات فيها إلهنا بالجسد وبأكثر من ذلك نحن لا نقدر أن نبيعها "
بعد هذا الرد لم يكن أمام صلاح الدين سوى القتال حيث أمر بنصب المنجنيقات على المرتفعات وأعد العدة للحرب
واختار الصليبيون لقيادتهم في هذه المعركة الفاصلة القائــد " باليان ده ايبالين " أحد القلائل الذين تمكنوا من الهرب في معركة حطين وأخذوا بجمع سبائك الذهب والفضة ، ونزع زينة الكنائس وضرب عملة لتعينهم على أمور القتال
وبدأت المناوشات بين الجانبين، حيث أوشك المسلمون على اقتحام أسوار المدينة واكتسحوا الخنادق والتحصينات وعم الفزع السكان اللاتين، حيث ألقيت الأسلحة، وتم التضرع والبكاء ، حيث عقد الصليبيون مجلس شورى وقرروا طلب الأمان من صلاح الدين نظير التسليم، فرد صلاح الدين ذلك العرض، وقال لهم : كما أخذتم هذه المدينة بالسيف فلابد أن استردها بالسيف وسوف أبيد الرجال واستولى على الأموال. ولكنهم ألحوا ثانية في طلب الأمان وإزاء رفض "صلاح الدين " لذلك كشفوا عن مخطط كانوا قد اتفقوا عليه ، حيث قال "باليان " المبعوث الصليبي للسلطان صلاح الدين ، إننا إذ يئسنا من النجاة من سيوف جندك فإننا سنهدم المعبد والقصر المملوكي، وننقض حجارتها حتى الاساسات وسنحرق الأمتعة والكنوز والأموال في خزائن المدينة، كما سنهدم جامع عمر وقبة الصخرة ،اللذين هما موضوع ديانتك، وسنقتل ما لدينا من أسرى في سجون المدينة، منذ سنوات وعددهم خمسة آلاف رجل وسنذبح نسائنا وأولادنا بأيدينا حتى لا يقعوا في أسركم
وبعد أن تصبح المدينة رديما ومدفنا واسعا سنخرج للقتال قتال اليأس من الحياة ونحن ستون ألف مقاتل لن يفنى أحدا منا حتى يقتل واحدا من جنودك … فامنحنا الأمان نسلمك المدينة دون أن يمسها أحد من الطرفين بسوء ؟!
شهدت خيمة "صلاح الدين " مجالسا للمشورة ضمت الأمراء والقواد، ومنعا لسفك الدماء التي تحرك المزيد من الأحقاد ،ثم الاتفاق على أن تسلم المدينة مقابل أن يرحل منه كل اللاتين غير العرب الذين استوطنوها بعد الغزو الصليبي، وأن يكون رحيلهم في غضون أربعة أيام وان يكون لهم جميع ما يملكون من نفائس وأموال وذلك في نظير فدية قدرها عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينار واحد لكل طفل " وفي يوم الجمعة 3 تشرين أول سنة 1187 م الذي يوافق ذكرى الإسراء والمعراج، تم التوقيع على نسختي المعاهدة بالتسليم، ودخل العرب المسلمون المدينة المقدسة
انشغل اللاتين والصليبيون بجمع المال والمتاع استعدادا للرحيل ، وفي يوم الاثنين 5 تشرين أول أغلقت جميع أبواب المدينة و أقيم لصلاح الدين عرش عند هذا الباب كي تمر من بين يديه جموع الخارجين
وبهذا بدا حكم صلاح الدين وأحفاده للقدس جيلا وراء جيل ، حتى جاء المماليك المسلمون وحكموا القدس في 1489م وفي هذه الفترة انتشر الطاعون في القدس ،وبقى أربعة شهور، حتى كان يموت بسببه ما يقارب مائة شخص يوميا ،وقد أتى هذا المرض على القلة القليلة من اليهود والتي كانت موجودة في القدس
وكانت هذه هي نهاية مرحلة عظيمة من المتاعب والأحداث الهامة في القدس إلى ما بعد انتهاء الحكم العثماني .