مكتبة الأنيس بالجلفة بحوث مذكرات و رسائل التخرج الجامعية الجاهزة
رمرحبا بك ساهم بإثراء المنتدى و التسجيل فيه
مكتبة الأنيس بالجلفة بحوث مذكرات و رسائل التخرج الجامعية الجاهزة
رمرحبا بك ساهم بإثراء المنتدى و التسجيل فيه
مكتبة الأنيس بالجلفة بحوث مذكرات و رسائل التخرج الجامعية الجاهزة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
مكتبة الأنيس بالجلفة بحوث مذكرات و رسائل التخرج الجامعية الجاهزة

رسائل ماجستير ،بحوث جامعية جاهزة ، كتب إلكترونية ، مذكرات تخرج ، محاضرات ، برامج
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
» تحليل برنامج اللغة العربية للسنة الرابعة ابتدائي
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالأربعاء يوليو 15, 2015 3:12 am من طرف Admin

» english for all
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالخميس يوليو 05, 2012 8:36 pm من طرف Admin

» جديد مسابقات الماجستير 2012 / 2013
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالأربعاء يونيو 27, 2012 2:10 pm من طرف wassim22003

» اللغة في النقد
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالأحد أبريل 29, 2012 5:40 pm من طرف wassim22003

» بحوث التسويق
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالجمعة مارس 23, 2012 6:42 pm من طرف hamida1989

» مذكرات تخرج 2012
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالجمعة مارس 23, 2012 6:18 pm من طرف wassim17

» السوق النقدية
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالجمعة مارس 23, 2012 5:50 pm من طرف wassim17

» المخطط الوطني للمحاسبة pcn
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالجمعة مارس 23, 2012 5:46 pm من طرف wassim17

» رسائل ماجستير جديدة وحصرية
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالجمعة مارس 23, 2012 5:44 pm من طرف wassim17

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر

 

 نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 254
نقاط : 698
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 26/07/2011
الموقع : https://brahimi.forumarabia.com

نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Empty
مُساهمةموضوع: نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4)   نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالأحد ديسمبر 11, 2011 9:33 pm

أزمة العلامه‏

2 ـ نظرته للنص‏

3 ـ النص والأثر‏

4 ـ الممارسة النصيّة‏

ما النّصُّ في معناه الشَّائع؟ إنّه المساحة غير العاديّة للأثر الأدبيّ؛ إنّه نسيج من الكلمات الرَّاسخة في الأثر والمنتظمة على نحوٍ تُفضي فيه إلى معنًى محدَّد ووحيد إنْ أمكنَ. وبالرّغم من الطَّابع الجزئيّ والبسيط لفكرة "النّصّ" (وهو في الآخِر ليس إلاّ موضوعاً قابلاً للملاحظة بواسطة الحاسّة البصريّة)‏

فإنّ النّصّ يساهم في إفراز القيمة المعنويّة للأثر فهو خادمُه البسيط ولكنْ لا غنًى عن خدماته. ولمّا كان النّصّ تقريباً على صلة تكوينيَّة بالكتابة (النّصّ هو ما كُتِبَ) ـ لأنّ صورةَ الحروف ذاتها بالرّغم من أنّها تظلّ خطّيّةً إلاّ أنّها توحي أكثر من الكلام بتشابك النّسيج (النصّ يعني اشتقاقاً النّسيج) ـ فإنّه هو المولِّد ـ في الأثر ـ لضمان الشيء المكتوب الّذي ينهض بوظائف صيانته وذلك من ناحية الثّبات والتّسجيل الدّائم الهادف إلى تجاوز ضعف الذّاكرة وأخطائها، وهو من ناحية أخرى تأكيدٌ لشرعيّة الحرف والأثر السّاطع الذي لا يمّحي للمعنى الّذي أودعه صاحبُ الأثر عن قصدٍ في النّصّ. إنّ النّصّ سلاح في وجه الزّمن والنِّسيان وخُدَع الكلام الذي سرعان ما يتراجع ويتلاشى ويتنكَّر لنفسه. إنّ فكرة النّصّ مرتبطة بعالم بأسْره من المؤسَّسات: الشرائع، الكنيسة، الأدب، التّعليم؛ النَّصّ موضوع أخلاقيّ فهو المكتوب ما دام يشارك في العقد الاجتماعيّ. إنّه يُلْزمُ ويَقْضي بأن نضعَه نصبَ العيْن ونحترمَه ولكنّه في المقابل يسمُ اللّغةَ بصفةٍ لا تقدَّر بثمن (وهي لا تنبثق عن جوهره) إنّها صفةُ "السَّلامة".‏

1) أزمة العلامة:‏

يمثِّل النص, من الناحية الابستمولوجيّة، ومن وجهة نظر كلاسيكية, قسماً من مجموع المفاهيم مركزها (العلامة)، لذلك ندرك الآن أن (العلامة) تمثل مفهوماً تاريخياً وأثراً فنياً تحليلياً (وحتى إيديولوجياً)؛ ففكرة النص تقتضي أن تكون الرسالة المكتوبةُ le message ècrit خاضعةً للتقطيع مثل العلامة: فمن ناحية يوجد الدال (الجانب المادي للحروف وتسلسلها في كلمات وجمل وفقرٍ وفصول) ويوجد من ناحية أخرى المدلول أي المعنى الأول والواضح والنهائي والمحدد بواسطة علامات تحمله. إن العلامة بالمفهوم التقليدي الفيلولوجي هي وحدة مغلقة يترتب على انغلاقها إيقاف للمعنى ومنع له من الحركة ومن الازدواجية ومن التطواف؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى (النص) الكلاسيكي: يغلق الأثر ويقيده بحروفه ويوثقه كتافاً إلى مدلوله. إن دور الفيلولوجيا القديمة هو إعادة ترميم معنى النص المهدد بالتلاشي, لذلك مثل (النص) في القديم مداراً لكل الاتجاهات التأويلية les ghermèneutiques, فعبر ترميم الدال يقع الوصول إلى التأويل المعياري للمدلول: النص يحمل اسم الأثر المسكون بمعنى وحيد, معنى "حقيقي" ونهائي. إن النص إذن هو هذه الأداة العلمية التي تحدد بنوع من التسلط قواعد القراءة السرمدية. إن هذا المفهوم للنص مرتبط بطبيعة الحال بميتافيزيقا الحقيقة mètaphysique de la vèritè. إن تاريخ (الحقيقة) و(العلامة) و(النص) يمتد على قرون, هو نضال من أجل "الحقيقة" باسم "معنى" ما ضدَّ "معنى" آخر؛ هي فصول من الحيرة والقلق والشك أمام ضبابية العلامات وغموضها. إنه تاريخ دموي حينا وقاس أحياناً ربط بين الحقيقة والعلامة والنص؛ ولكنها الأزمة نفسها تطال القرن الأخير في مجال ميتافيزيقا الحقيقة (نيتشه) وتطال اليوم أيضاً مجال نظرية اللغة والأدب عن طريق نقد إيديولوجي للعلامة وذلك بتعويض (النص) الكلاسيكي المرتبط بأهل الفيلولوجيا القدامى بنص حديث. إن هذه الأزمة شرعت أبوابها اللسانيات نفسها. لقد صرفت اللسانيات (البنيوية)، بطريقة غامضة (أو جدلية), لعنايتها العلمية إلى مفهوم العلامة (المقطعة إلى دال ومدلول) مما قد يوحي بأن ذلك ضرب من الانتصار لنوع من ميتافيزيقا المعنى. ولكن اللسانيات أجبرت، بالتسلط نفسه، جهازَ الدلالة l'appareil de la signification على التحرك والتفكك والانقلاب. ففي قمة اللسانيات البنيوية (في حدود 1960) بدأ كثير من الباحثين, غالباً ما أفرزتهم اللسانيات نفسها، في توجيه خطاب نقدي للعلامة وإعلان نظرية حديثة للنص (والتي تسمى في القديم "نظرية الأدب").‏

ففي عمق هذا التحول لعبت اللسانيات دوراً ثلاثياً باتجاه المنطق والشعرية والسيميولوجيا:‏

* اللسانيات/ المنطق: احتكت اللسانيات بالمنطق الذي صار مع كارناب Carnap وريسيل Russel وويتجنستن Wittgenstein عبارة عن لغة عودت الباحث على تعويض مقياس (الصحة) بمقياس (الحقيقة) وعلى إطِّراح كل لغة تحاكم المضمون وتتسلط على المعنى وعلى اكتشاف ثراء التحولات في أبنية الخطاب دقة واتساعاً. فقد نتج من خلال ممارسة الشكلنة على غرار أصحاب المنطق التعرف الكامل على الدال وعلى اكتفائه بنفسه وعلى مدى انتشاره.‏

* اللسانيات/ الشعرية: بفضل أعمال حلقة براق Prague وأعمال جاكبسون عاد إلى الضوء ثانية الكلام على الخطاب: فجزء كبير من الأدب انتقل إلى اللسانيات (على مستوى البحث إن لم يكن على مستوى التدريس) تحت اسم "الشعرية" Poètique (وهي ترجمة كان فاليري Valèry قد رأى فيها ضرورة) وأفلتَ بذلك من نوعٍ من المقاضاة لتاريخ الأدب الّذي كان يُنظَر إليه على أنَّه مجرَّد تأْريخٍ للأفكار والأجناس.‏

* اللسانيات / السيميولوجيا: إن السيميولوجيا علم جديد افترض دي سوسير قيامه منذ بداية القرن ولكنه علم لم يبدأ في التطور إلا في حدود 1960 وقد سار أساساً، على الأقل في فرنسا، باتجاه تحليل أجناس الخطاب الأدبي؛ فاللسانيات تتوقف عند الجملة وتتيح بعناية وصفاً للوحدات التي تكونها (مركبات Syntagmes/ لفاظم monèmes/ صواتم phonemes) ولكنْ ماذا عساه يكون الأمر بالنسبة إلى ما وراء الجملة؟ ما هي الوحدات البنيوية للخطاب (إذا ما تخلَّيْنا عن التقسيمات المعيارية للبلاغة القديمة)؟ هكذا احتاجت السيميائية الأدبية إلى فكرة (النص) باعتبارها وحدة خطاب عليا أو أكثر عمقاً من الجملة التي تبقى من الناحية البنيوية مختلفة عنها: يقول تدروف عن فكرة (النص): "عن فكرة النص لا تقع في المستوى نفسه الذي تقع فيه الجملة [..] ففي هذا الاتجاه ينبغي أن يكون النص متميزاً عن الفقرة وهي وحدة طوبوغرافية من عدة جمل. فمثلما يمكن أن يتطابق النص مع جملة واحدة يمكن أن يتطابق مع كتاب بأكمله [...] إنه يشكل نظاماً لا ينبغي جعله مطابقاً للنظام اللغوي ولكن يجب إقامة الصلة بينهما, إنها صلة من التجاور والتشابه".‏

إنّ النص، من منظور السيميائية الأدبية الصارمة، يعتبر, في وجه من وجوهه، الوعاء الشكلي للظواهر اللسانية؛ ففي مستوى النص تقع دراسة علم مضمون الدلالة sèmantisme de la signification (وليس فقط المضمون الدّلالي للتواصل) والتركيب السردي أو الشعري. إن هذا المفهوم الجديد للنص القريب أكثر إلى البلاغة منه إلى الفيلولوجيا يريد في المقابل أن يكون متوافقاً مع مبادئ العلم الوضعي فيدرس النص في ذاته لأنه لا يمكن الاعتماد على أية إحالة على مضمون أو على مؤثرات تتجاوزه (سواء أكانت اجتماعية أم تاريخية أم نفسية) باعتبار أن النص, كما هو الحال في أي علم وضعي, ليس إلا موضوعاً خاضعاً للرقابة عن بعد من قبل ذات عالمة. لا يمكن إذن الكلام، في هذا المستوى، على تحول ابستمولوجي. فهذا التحول يبدأ عندما تتنزل عن وعي مكتسبات اللسانيات والسيميولوجيا (بعد أن تضفى عليها النسبية تحت غطاء الثنائية: هدم/ إعادة بناء/ في حقل مرجعي جديد محدد أساساً بواسطة التواصل الداخلي لفلسفتين معرفيتين مختلفتين: المادية الجدلية (ماركس Marx, انقلز Engels, لينين Lènine, ماو Mao) والمرجعية الفرويدية (فرويد Freud, لاكان Lacan). فهذا المسلك هو الذي يتيح، يقيناً, تحديد عناصر النظرية الجديدة (للنص). ولكي يكون هناك علم جديد لا يكفي أن يزداد العلم عمقاً أو انتشاراً (وهو ما يحدث عندما نمر من لسانيات الجملة إلى سيميائية الأثر) بل ينبغي أن يكون هناك لقاء بين فلسفات معرفية مختلفة‏

épistémés différentes بله غير معروفة الواحدة منها حيال الأخرى (كما هي حال الماركسية والفرويدّية والبنيويّة) كما ينبغي أن يُنْتَج هذا اللِّقاءُ موضوعاً جديداً (ولا يتعلَّق الأمر بمقاربة جديدة لموضوعٍ قديمٍ) إنّه في هذه الحالة موضوعٌ جديد اسمُه (النَّصّ).‏

2) نظريّة النّصّ:‏

إنَّ اللغة التي نقرر استعمالها في تقديم تعريف للنص ليست قليلة الأهمية لأنه من مقتضيات نظرية النص طرح كل ملفوظٍ على بساط السؤال بما في ذلك الملفوظ المتعلق بالنص تحديداً: نظرية النص حساسة، وعلى نحو مباشر، تجاه أية ميتالغة تتضمن مراجعة لخطاب العلمية، وهنا، وفي الوقت الذي تقتضي فيه نظرية النص تحولاً علمياً حقيقياً، فإن العلوم الإنسانية لم تضع اللغة الخاصة بها موضع سؤال معتبرة إياها مجرد أداة أو ستاراً شفافاً في غاية الصفاء.‏

إن النص هو عينة لغوية تتنزل بنفسها في أفق من اللغات؛ فأن ينعقد التواصل على بعض المعارف أو الأفكار النظرية حول النص فإن ذلك يقتضي التعويل بطريقة أو بأخرى على الممارسة النصية La pratique textuelle. إن نظرية النص يمكن بلا ريب أن تفصح عن صيغة خطاب علمي متماسك أو محايد ولكن يكون ذلك على الأقل وفق حالة ظرفية ومنهجية؛ وإلى جانب أسلوب العرض هذا، سنجد من المشروع جداً أن ندرج في عداد نظرية النص التنوع الهائل للنصوص (مهما يكن الجنس وتحت أي شكل ينضوي النص) التي تعالج انعكاسية اللغة‏

la réflexivité du logage ودورة التلفظ. هكذا يمكن أن يقترب منا النص بواسطة التعريف definition ولكن (وقد يكون بصفة أخصّ) بواسطة المجاز.‏

لقد أنجز تعريف للنص باتجاه غايات ابستمولوجية أساساً من قبل جوليا كريستيفا إذ تقول: [نعرف النص بأنه جهاز مجاوز للغة translinguistique يعيد توزيع نظامها مقيماً الصلة بين كلام تواصلي هدفه الإخبار المباشر وبين ملفوظات مختلفة سابقة وآنية]. فإلى جوليا كريستيفا يرجع الفضل في ضبط المفاهيم النظرية الرئيسية التي يحتوي عليها ضمنياً هذا التعريف للنص: تطبيقات دالة Pratiques signifiantes وإنتاجية productivité وإدلال signifiance وفينو ـ نصّ phéno-texte وجينو ـ نصّ géno-texte وتناص intertextualité

النقد المنهجي و نقد المنهجية(5)

نقرأ كتابات كثيرةً، كلّ يومٍ، حول كتابٍ، أو مسرحيةٍ، أو قصيدةٍ، وربما أغنية أو خطاب أو رأي ... على أنّ هذه الكتابات تبقى آراء شخصيةً لا تحمل منهجاً نقدياً واضحاً، كما يغيب، في كثير من الأحيان، الهدف المنشود منها. فلا بدّ، إذاً، من غايةٍ للنقد، في ضوئها تحدد المناهج و التقنيات.

قد تكون الغاية إزالةَ صعوبةٍ في الكلام (مكتوباً أو مسموعاً)، أو اختيار الأفضل من نصّينِ أو نصوص متعارضة. أو تكوين أحكام للأدب أو عليه. إلا أن الوصول إلى هذه الغايات منفردة أو مجتمعة يبقى مبهماً، ناقصاً، مضطرباً، و احياناً غوغائياً، إذا لم يقترن بمنهجٍ أو تقنية. وعليه فإني أميل إلى عدم استعمال ملفوظة " النقد "، لما تحمل في مضمونها من اختيار بين الجيد و السّيئ ، و بين القبيح والجميل، و بين الراي و الرأي المضاد.

ولما يحمله السوء و الجودة و القبح و الجمال من مفاهيم غامضة نزاعية، تتعلق أكثر ما تتعلق بالذوق و الإرث و الثقافة و الحضارة. لذلك أفضل استعمال ملفوظة " الدراسة " أو " المقاربة ". لأننا في فعل دراسة أي منتج أدبي أو فنّ جميلٍ لا يمكن أن ندّعي امتلاك المعايير و المنهجيات كلها. و بالتالي امتلاك أحكام نهائية أو ثايتة الوقت كلّه.

و المناهج أو المقاربات عديدة ، نذكر منها :

المنهج التاريخي:

يصعب فصل هذا المنهج عن تاريخ الأدب. فهو مقاربة خارجية عن النص. و أحياناً تكون وصفية (= تصحيحية) بحسب أيديولوجية دينية ، أو أخلاقية أو سياسية أو غيرها من الأيديولوجيات.

هي مقاربة " نعتية " بمعنى أنها تضيف كثيراً إلى النص بوساطة إعادة الصياغة. فهي تكثر من التوسط بين المؤلف و النص، بين المنتِج و المنتَج، أو بين النص و القارئ. هي مقاربة تكوّنية تُعنى بالأصل و النشوء أي بأصل و تاريخ الأثر.

و يعتقد أصحاب هذا النهج أنه من الضروري معرفة صاحب الأثر و الأحوال السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في زمانه لكي تُفهم آثاره.

و قد تنشأ من هذا النهج مقاربتان :

1- المقاربة الفقهية (= التاريخية) Philological ، وهي مقاربة أكاديمية معرفية واسعة ، تُعنى بالتحقق من الكتب و المخطوطات من أجل نشرها و تصنيفها. و لهذا فهي تستعين بعلمي الببليوغرافيا Bibliography و التأريخ Historiography .

إنّ المقاربة الفقهية – من الببليوغرافيا إلى التأريخ – تهتم بالأسلوب و التصميم و المقارنات. ما يهمها هو ما قبل النص (l'avant – texte) لأنه السبيل إلى إنشاء طبعة نقدية. وقد تتمهّل أمام التأثيرات المختلفة بين الآثار أو بين أصحابها لتكوّن سجلاًّ تاريخياًّ للأفكار و الذهنيات.

2- المقاربة النفسية أو البسيكلوجية.

غالباً ما يكمّل المنهج النفسي المنهج الفقهي. وهو منهجٌ عاطفيٌّ تبسيطي، يحكي عن صاحب الأثر أكثر مما يحكي عن الأثر عينه. وقد تجنح المقاربة فيه إلى الدهماوية (= الديماغوجية demagogy ) بقدر ما تجنح إلى إعطاء الدروس في أحسن الأحوال. فالمنهج الديماغوجي يسيطر على "النقد" الصحافي : فالصحيفة تمرّر الدعاية على أنها معلومة. و الترويج على أنه رأي، و الإعلان على أنه شعبية. ولا يسعى إلى شرح النص، و إنما إلى توريط القارئ من خلال إلصاق بضع "وصفات" بالنص: فهو يلخّص، يكرّر، يدعو، يُمجّد أو يضحّي ... إلخ.

وباختصار، إنّ المنهجين : الفيلولوجي (= اللغة والأسلوب)، أو البسيطولوجي (الشخصيات و المواضيع الكلامية) لا ينفصلان داخل المنهج التاريخي الذي يقوم على استقدام الأدب إلى الأثر أو إلباسه معطفاً أدبياً، ليكون بذلك نقداً أسلوبياً: ففي المنهج الفيلولوجي الأثر هو أسلوب الكاتب، وفي المنهج البسيكولوجي أسلوب الأثر هو الكاتب. ولنوضح أن الفيلولوجيا، أو الببليوغرافيا تقرأ الأثر في حياة المؤلف (كاتب و مجتمع، أسلوب ولغة). أما البسيكولوجيا أو البيوغرافيا (= سيرة المؤلف) فتقرأ حياة المؤلف (منفرداً أو مجتمعاً) في الأثر (Jean – Marc Lemelin).

المنهج التفسيري / التأويلي

وهكذا راينا أن النقد القديم أو المنهج القديم (= المنهج التاريخي) يزاوج بين الفقهية المعرفية الواسعة و التبسيطية البسيكولوجية : معرّفةً الأثر بالمؤلِّف. أمّا المنهج الحديث ( كما يحلو للبعض أن يسميه )، أو المنهج التفسيري / التأويلي فيُعرّف، بالأحرى، المؤلّف/الأديب بالأثر/ المؤلَّف.

فيبدو بذلك أكثر ذاتية على أنه داخليّ (= داخل النص) أكثر من المنهج التاريخي. و يُعنى بأمرين اثنين :

الأول:

المقاربة الرمزية / الشكلية Formalism/Symbolism

إنّ مقاربة شكلية / رمزية للأدب تتطلّب قراءة دقيقة للنص. فالشكليون / الرمزيون يؤمنون بأن معرفة الأثر الأساسية و المنشودة، تكمن داخل الأثر عينه. فلا حاجة للإتيان بما هو خارجيٌّ كالمعلومات التاريخية و السياسية و الاجتماعية في زمن الأثر. أو تلك المتعلقة بحياة صاحبه. وهم ،(افتراضا ً), لا يبحثون في الآثار من خلال المنهج النفسي (البسيكولوجي)، أو الميثولوجي أو الأنثوي، أو غيرها من نقاط الاستشراف. كما لا يهمهم تأثير العمل الأدبي في القارئ أو السامع.

فهم يعتبرون أن المواضيع (الكتابة أو الكلام) تتحقق في الصور و الخيال و المجاز والمتخيّل و التّهكّم و المفارقة (= الموهم للتناقض) و الاستعارة. وكلها على شكل رموز ( غاستون باشلار ). و إذا كانت هذه الرموز تمثل أساطير أو خرافات فعندها يمكن التحدث على نقد ميثولوجي (= أسطوري) يستمد مادته من الميثولوجيا أو من علم الأعراق البشرية ( = الاثنولوجيا ) ( كلود ليفي شتراوس).

و أما إذا كانت مرتبطة بالتعقيدات النفسية فيجوز عندها الدخول فيما يسمى بالنقد النفساني الذي يستعين بالتعاليم الفرودية (Freud) أو الجنجية (Jung) على السواء.

الثاني:

المقاربة الفكرية (thematic) بحسب الأفكار الرئيسة و موضوع الكلام :

تتشعب و تتكاثر في هذه المقاربة أنواع شتى من المواضيع (themes) : النفسانية و الميثولوجية و الاجتماعية و الفلسفية و النفسية – الاجتماعية و الاجتماعية – التاريخية ( الدينية و الأخلاقية و غيرها ... ).

فإذا ما جمع علم الأفكار المواضيع الفلسفية أو الدينية فعندها يمكن الكلام على النقد الفلسفي . و فيما يلتصق هذا الأخير، من قريب أو بعيد، بالفلسفة الوجودية (جان بول سارتر، دوبرفسكي) ، فإنّ النقد الاجتماعي يلتصق هو الآخر بالفلسفة الاجتماعية أو الشيوعية. و لسنا في معرض الدخول في تفاصيل و تشعبات هذا النقد المعقّد إلا أننا نستطيع التلميح – على سبيل المثال – إلى واقعية لوكاكس Lukacs ، و إلى البنيوية المورّثية / الجينية لغولدمان في الفلسفة و علم الاجتماع الأدبي و علم الاجتماع الروائي. كما نلمّح إلى شخصانية أو وجودية ( فالاردو Falardeau) المنهج الأخلاقي / الفلسفي

يرى أصحابه إلى الأدب بوصفه موجّهاً أخلاقياً و محققاً لمسائل فلسفية. فعلى الآثار الأدبية / الفنية أن تحمل جدّيةً عليا. و على الأدب أن يُظهر نصحاً أخلاقياً أو حكمةً أخلاقية ً ، و أن يذهب مذهب المنفعة و تحقيق الخير الأعظم ( أفلاطون )، كما على الأدب أن يكون ممتعاً مثقّفاًَ منوّراً.

و قد تكون هذه المقاربة نافعة في بعض الروايات أو الحكميات حيث يتصادم الخير و الشر. إلا أنها مقاربة لا ترى إلى الأدب بوصفه "فناً " معزولاً عن التضمينات الأخلاقية. و إنما تعترف بالأدب مؤثراً في القارئ أو السامع، سواء باللطف أو بالمباشرة. و إن رسالته، و ليس "الزينة" الحاملة لهذه الرسالة، هي الأهم.

قد تجتهد في هذه المقاربة كثرة الأحكام (= المحاسبة و إصدار الأحكام و الأحكام المضادة). فالبعض يؤمن بأن يكون الحكم في الأدب أولاَ ( إذا لم يكن فحسب )، على فضائله أو ميزاته الفنية، و ليس على مضمونه الأخلاقي أو الفلسفي.

منهج المساواة بين الجنسين (Feminist) :

يهتم هذا المنهج باثر الجنس (= من حيث الذكورة و الأنوثة) في الكتابة و القراءة. و يبدأ عادةً بنقد الثقافة السلطوية (= الأبوية). كما يهتم بمكانة النساء الكاتبات. وهو يتضمن بحثاً في نظرية المساواة في النصوص. فالنقد القائل بالمساواة بين الجنسين سياسيٌّ. و غالبا ً ما يطالب بتعديل مواقف أو حالات، أو بتغييرها و إصلاحها. و يرى أصحابه أن مخاوف الرجل تُصوّر من خلال شخصيات نسائية. وفي كثير من الأحيان تقول حجتهم إن الجنس (= الذكورة و الأنوثة) يحدد كلّ شيء. أو بالعكس: إن الفوارق الجنسية كلها يفرضها المجتمع، و أن الجنس لا يحدد و لا يقرّر شيئاً.

و إذا أمعنّا في قراءة نتاج الروائيات والشاعرات العربيات خاصةً، و المتعاظم في الآونة الأخيرة، كما في النتاج النسائي عامةً، نلاحظ ثقافة تمر بمراحل ثلاث لا بدّ لمنهج المساواة أن يستعين بها كمادة لمقاربته. فالأولى هي المرحلة الأنثوية (= النسوية)، و تشمل محاكاة الصيغ السائدة و المنتشرة في التقاليد المسيطرة و الغالبة. و محاولة " تذويتها"، بمعنى إضفاء الصفة الذاتية على معاييرها و دمجها في النفس بحيث تصبح مبدأً هادياً (= صفة طبيعية فطرية).

و أما الثانية فمرحلة المساواة بين الجنسين سياسياً و اقتصادياً. و تشمل الاحتجاج ضد هذه المعايير و القيم و تدافع عن حقوق الأقليات و حقوق المرأة خاصة ً .

و أما الثالثة فهي مرحلة اكتشاف الذات و التحوّل نحو الداخل المعتق من تبعية المعارضة و المعارضين: هي بحث عن الهوية و الوجود (محمد العباس و مليحة الشهاب).

ولا شكّ في أنّ هذه المقاربة تساهم في تسوية و إصلاح شأن المرأة التي عانت ولا تزال من فقدان الحضور و المشاركة، و من حقوقٍ إنسانية ٍ عدّةٍ.

على أنها، وهي تدعو إلى المساواة، قد تسخّر النقد الأدبي أو ترميه في معركةٍ سياسيةٍ. وقد تُغفلُ آثاراً لها جدارتها بحجة أنها "سلطوية" .

و قد تسفّ أحياناً لتحيل عملاً نسائياً مميزاً إلى حالةٍ من الانعزال و التطرف مما يحرم الأدب النسائيّ من أن يأخذ مكانته الطبيعية في قائمة الأدب. و هذا كله من المحاذير أو من المساوئ التي قد يقع فيها المقاربون في منهج المساواة.

الشخصية الدرامية

(ريتشارد الثالث)

في ضوء نظرية علم النفس الفردي(6)

المقدمة :

يعدّ الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير من أهم كتاب المسرح على الإطلاق، لما تتسم به أعماله من تجليات خالدة على صعيد الفكر والقيم الفنية، حيث أبدع في رسم ملامح شخصيات عظيمة في عوالمها الداخلية وطموحاتها، ويمكن أن نطلق عليه - عن جدارة - بأنه مصمم كبير للنفس البشرية، وتتراوح شخصياته بين العاطفة الجياشة والغيرة القاتلة (عطيل) إلى العقل والتردد (هاملت) إلى الطموح المرضي للسلطة (ريتشارد الثالث) إلى غير ذلك من أنواع التراكيب السايكولوجية للشخصيات.

إن عمق شخصياته وتنوعها جعلها تكون مثار جدل ونقاش منذ القرن السابع عشر إلى الوقت الحاضر، ويعدّ القرن التاسع عشر قرن الآيديولوجيات حقاً، حيث ظهرت فيه الفلسفات باختلاف اتجاهاتها المادية والمثالية، وكشوفات على النفس، واستنتاجات دارون في أصل الأنواع، والنظريات الطبقية الاقتصادية، وغيرها.

كانت تلك الاكتشافات وفي كل الميادين بمثابة منظور جديد للناقد يساعده على اكتشاف مكنون عوالم شخصيات شكسبير، فدخل الصراع الطبقي في تحليل مسرحيات شكسبير مثل (روميو وجوليت) حيث كان الصراع محتدماً بين عائلة مونتاغو وعائلة كابيوليت.. وأصبحا (روميو وجوليت) هما الضحية، وجاءت نظريات التمييز العنصري تطبق على شخصية (عطيل) المغربي الأسود، وفلسفة العبث والتردد عند (هاملت)، وكان لانقسام العالم إلى معسكرين أحدهما - اشتراكي وآخر رأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية دور كبير في تعميق وتنويع وتعدد مثل هذه التحليلات والتفسيرات الخلابة. فالمعسكر الاشتراكي ونتيجة لإيمانه السابق بسلطة العوامل المادية والاقتصاية على الفرد، له تفسيراته الطبقية والموضوعية في التحليل بحيث كان يولي الأهمية القصوى للعوامل الخارجية (وسائل إنتاج علاقات إنتاج) ولذلك فهي لا تعتمد كثيراً على العوامل الذاتية والداخلية للفرد، وهذا ما لاحظناه عندما قام المخرج الروسي كوزنتسيف بإخراج هاملت للسينما، والذي حاول به أن يقرب صورة القلق العلمي والطبقي في عصرشكسبير الذي كانت فيه اكتشافات فرانسيس بيكون في أوجها وحياة الفلاحين وصيادي الأسماك وبين حالات العصر الحاضر، فكان إخراجه قراءة موضوعية مقارنة بين عصرين بينهما خيط مشترك يمثله بؤس المجتمع وبروز السؤال الفلسفي والدعوة إلى العمل والتغيير.

إن مناهج القرن التاسع عشر والقرن الحالي أصبحت منظاراً عميقاً للعودة إلى نتاج شكسبير الخالد في القرن السادس عشر. ولم يقتصر ذلك على التحليل الأدبي والنقد فحسب، بل امتد إلى العروض المسرحية من خلال تحليل الشخصيات الرئيسة وتحديد أبعادها بالصورة التي تتفق مع منهجية التحليل وفلسفته. فأصبح (هاملت) أكثر من هاملت وكذلك (عطيل ومكبث ولير وريتشارد الثالث) يتجددون في كل عصر. ومن تلك المناهج منهج التحليل النفسي الذي تزعمه سيجموند فرويد في بداية هذا القرن، الذي أكد فيه (الأنا - الهو - الأنا الاعلى) والغريزة (الليبدو) وعقدة أوديب، وأرجع علاقة الرجل بأمه إلى علاقة (أوديب الملك) بأمه (جوكاستا). وهي علاقة جنسية لا شعورية تدخل في كيان الولد الطفل منذ ولادته. بالضبط مثل (عقدة إلكترا) في حب أبيها (احاممنون) ومحاربتها لأمها كليتمنستا لقتل أبيها وزواج الأم من عشيقها (ايجستوس).

إن هذه الدوافع الغريزية (الفطرية) صارت تفسر في ضوئها الكثير من الشخصيات ومنها علاقة (هاملت) بأمه (جرترود) في مسرحية (هاملت).

ولم يبق فرويد وحده في ساحة المنهج النفسي، بل إن كثيراً من طلابه انشق عليه مثل يونج، وأدلر (صاحب أسلوب علم النفس الفردي) الذي اعتبر فيه أن لكل شخضية مقومات فردية خاصة لا يصح أن تعمم، وبذلك اختلف مع قوة الدوافع الباييولوجية والغريزية التي أسس عليها فرويد نظريته التي كانت برأي فرويد عالمية وتصلح لكل الأفراد ومن هنا بدأ الاختلاف في الطريقة والأسلوب ضمن المنهج النفساني الواحد.

إن شخصية (ريتشارد الثالث) التي كتبها وليم شكسبير تتمتع بمزايا تفرد كبيرة جداً وسط عالم لا يشببها في هيأتها أو في أهدافها ودوافعها، فكان أسلوب ألفريد أدلر هو الأنسب لتحليل هذه الشخصية الفريدة، وهي محاولة بسيطة على طريق اكتشاف أهمية مثل هذه الدراسات بالنسبة لممثلينا الذين يقومون بتمثيل مثل هذه الشخصيات العظيمة دون تحليل أو تفسير لأي شيء فيها فيؤدونها بعتمة تفسد متابعة ذلك العمق السامي والجليل.

المدخل

تعدّ شخصية ريتشارد الثالث واحدة من تلك الشخصيات الشكسبيرية التي تميزت بعمق أبعادها القابلة للتحليل والاجتهاد والتفسير وفق معطيات العصر الحاضر، وما وفّره للباحثين من وسائل ومناهج للتحليل يمكن أن نسلط الضوء من خلالها على شخصية ريتشارد الثالث من زوايا عدة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية.. إلخ.

وهذا ليس غريباً على عوالم وليم شكسبير وشخصياته لما امتازت به من غنى وشمول إنساني. إن شخصية ريتشارد الثالث، وفي إحدى زواياها البارزة، يمكن النظر إليها من خلال النقد النفساني وبالتحديد وفق مدرسة ألفريد أدلر الذي (سمى أسلوبه الجديد علم النفس الفردي؛ لأنه يركز على فردية كل شخص منكراً عالمية الدوافع البيولوجية والأهداف التي نسبها لنا فرويد) (3، ص76).

وما يعني بالقصور والشعورية، يصبح دافعاً لكثير من الأفعال التي تتسم بحب السيطرة كتعويض ما كان ينقصه من أعضاء جسمانية أو تشوهات خلقية، وما يتيح هذا النقص من تصدع في العلاقة مع المجتمع، بدءاً بالعائلة وانتهاءً بالمجتمع الواسع، وتأسيساً على ما تقدم ومن خلال تبني نظرية أدلر في تحليل شخصية ريتشارد الثالث، لا بد لنا أن نرسم محددات نظرية أدلر النفسية لتكون لنا منطلقاً وهادياً لتحليل الشخصية.

* وهذه المنطلقات كما يحددها دارسو أدلر.. هي:

1- القصور (الشعور بالنقص).

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق).

3- أسلوب الحياة.

4- الذات الخلاقة.

5- الأهداف الوهمية.

6- الاهتمام الاجتماعي.

1- القصور (الشعور بالنقص)

من منطلق البداية بالمادة المعروضة للتحليل. تبدأ المسرحية بمنولوج طويل يتلوه علينا دوق جلوستر - الذي يصبح فيما بعد ريتشارد الثالث - يوضح فيه ملامحه الفسيولوجية التي تحدد فيما بعد سلوكه إزاء محيطه

(أما أنا، الذي لم أسوَّ في خلقة تبيح لي أن أمارس

أفانين الحب

ولم أخلق لأمتع النظر بصورتي على مرآة حبيبة

أنا الذي خُلق على عجل ولم يؤت من جمال المحبين

ما يخطر به أمام حسناء مختالة لعوب

أنا الذي حُرِم اتساق القسمات

وزيفت الطبيعة الخادعة بنيته

أنا المشوه المنقوص الذي أرسل قبل الأوان

إلى هذا العالم النابض بالحياة ولما يكد يتم خلقه

أنا الذي تنبحه الكلاب إذا وقف عليها

لما تراه من بالغ عجزه وغرابة هيئته (ص، ص 83)

إن هذا المنولوج الطويل يوضح إلى حد بعيد موقف ريتشارد الثالث من العالم ومن نفسه، حيث يقف بمفرده إزاء ما يحيطه، وقد كان شكسبير عظيماً حينما جعل ريتشارد يتلو حواره هذا وهو يقف بمفرده، دون مجد أول الأمر، حيث انطلق من نقطة البداية، أي جعله يوضح نقصه مما يجعل الدوافع واضحة أمام المتلقي حيث (اعتقد أدلر بأن شعور النقص العام موجود دائماً ومهم كقوة مؤثرة في السلوك) 3، ص07).

يتضح القصور من الحركات الجسمانية والإيماءات والحوار الذي يطلقه، فها هو يكرر (أنا المحروم) و(أنا المشوه) و(أنا تنبحه الكلاب) وإلى آخر تلك النعوت التي يعكس فيها حقيقته أمام نفسه أولاً، والتي تجعله قاصراً أمام الآخرين ثانياً، وكلما يواجهه الآخرون بحقيقته وقصوره الفسلجي يواجه نفسه بقسوة ومباشرة حيث يصف نفسه.

(ريتشارد: أنا الأعرج المشوه بصورتي هذه) (2، ص461).

لأن تفرده بنفسه وانزواءه مع قصوره خاصة وأن (وجود مثل هذا العضو القاصر يؤثر دائماً في حياة الشخص النفسية لأنه يحقره في نظر نفسه ويزيد شعوره بعدم الأمن) (4، ص 595).

كما ويؤثر أيضاً على سلوكه مع نفسه ومحيطه؛ لأنه يولّد حالة من القلق وعدم الاطمئنان على مصيره في عالم يتصارع معه ويضمر له الشر (هذا الشعور بعينه هو الذي يدفع ألفرد إلى بذل المزيد من الجهد لتعويض هذا الشعور بالقصور) (4، ص595). وأن يمارس ويحقق هذا التعويض في محيطه على صعيد الأفراد الذين يقاسمونه العيش. ولكن هذا القصور الفسلجي لا بد أن يصاحبه نقص في السلوك وفق تقاليد المجتمع وأعرافه. لا سيما إذا كان (الشعور بالنقص الناشيء عن قصور عضوي أو عدم كفاية في المحيط أقوى من المعتاد، فحينها قد تنشأ أنواع الاضطرابات والتغيرات الجسدية والعاطفية والعقلية التي تظهر بكل عوارض عصابية وذهانية) (5، ص241) فهذه الاضطرابات والتغيرات حالة طبيعية بالنسبة للمصاب بشعور النقص، إذا كانت تحافظ على قوام المجتمع وتنظيماته السلوكية ولكن إذا حاولت - الشخصيات المريضة - ان تغير النظم والنواميس الاجتماعية والاخلاقية فهي بلا شك تسبب حالة شاذة، وتكرارها يتحدد ويشخص كونه مرضاً ينبغي علاجه، ويتأكد من ذلك إذا كان (النقص في أحد الأعضاء يظهر ذاته في تأثيره العام في النفس في أثناء عملها والفكر والأحلام ومن اختيار المهنة وفي الميول الفنية والمقدرات (5، ص931).

وبقدر ما تكون الحالة معزولة عن تأثيرها الاجتماعي تكون طبيعية، خاصة إذا تصرفت تصرفاً طبيعياً وتحولت إلى سلوك إيجابي، لأن (تقدم الفرد ونموه وتطوره ينتج من محاولة تعويض نقائصه سواء أكانت تلك النقائص حقيقة أم خيالية) (3، ص07).

وقد (أوضح أدلر أن الأجزاء أو أعضاء الجسم التي فيها عيب تؤثر في نمو الشخصية من خلال محاولات الفرد وجهوده للتعويض عن النقص) (3، ص17). وخير مثال على ذلك القائد نابليون الذي كان قصير القامة، وشخصية شيشرون الذي كان يتلعثم في نطقه وأصبح فيما بعد أعظم خطيب في روما كلها، لأنه استطاع أن يوظف قصوره توظيفاً إيجابياِ وتفوق بذلك على ذاته المريضة والآخرين، وهنا لا بد أن نشير إلى أن النقص ليس بحدود الشخصية بل هو عامل مؤثر من الممكن أن يكون دافعاً لتحسين النوع الإنساني إذا فكرنا به، ليس من منطلق فردي بل من منطلق حاجة النوع الإنساني إلى الرقي في نواحي العلم والمعرفة والسمو الأخلاقي (فهذا الشعور بالقصور الذي يوجد مع الإنسان في بداية الحياة هو الذي يحفظ للإنسان بقاءه وحياته عبر الأجيال) (42، ص 695). لأنه مطلوب منه أن يتكامل ليتناسب مع تكامل قوانين الطبيعة والعلم، وإلا أصبح نوعاً متخلفاً وغير منسجم وربما قابلاً للانقراض. فهذا القصور الحضاري دافع كبير للنوع وتجاوز الفرد لذاته ودمجه بالذات الكلية للمجتمع، ولكن أدلر يرى أن (القصور مرادف للأنوثة بينما القوة ترادف الرجولة) (42، ص 695). وهذا ما كان واضحاً في شخصية ريتشارد الثالث في علاقته مع أمه الملكة ودوقة يورك وزوجته ليدى آن حيث كان يعاملمها بقسوة واستصغار لشأنهما لأن (هدف التعويض كان الرغبة في السلطة التي يلعب فيها الاعتداء دوراً كبيراً) (3، ص 37). وكانت الأسرة أول الميادين المباحة التي يمارس فيها عدوانيته المريضة. وهذا واضح من (المونولوغ الاستهلالي في مسرحية (ريتشارد الثالث) الذي يصوّر شكلاً آخر من أشكال العزلة المفروضة ألا وهو العاهة الجسمانية التي تفصل بينه وبين الآخرين. وضمير المفرد المتكلم يسود المونولوغ بإيماءات بالعزلة الطوعية الناجمة عن الأنانية وحب الذات، ولكنها كلما يؤكدها تقترن أيضاً بالعزلة المفروضة عليه، عزلة العاهة) (6، ص08).

فهو محصور بين عزلتين حادتين هما الأنانية وحب الذات، مقابل العاهة الأولى التي تخصه، أما نفسه، مرآته العاكسة والثانية في تعامل الآخرين معه من خلال عاهته وكلاهما مرتبط بالأخرى فهي منعزلة، إنها طفح الذات، وفعل طبيعي للعاهة الخارجية، فكلما كان خارج الفرد غير جميل، تتضخم الدواخل بشكل سلبي، وهذا ما حدث لريتشارد في حالة قصوره، فذاته صارت انعكاساً سلبياً لمكوناته الخلقية المشوهة، حتى تضخمت وصارت أنانية مريضة حادة.

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق)

الجرائم البشعة التي اقترفها ريتشارد الثالث والطرق الملتوية التي سلكها لتحقيق أهدافه السلطوية وإرادة السلطة كانت (الحافز نحو التفوق وتأكيد الذات) (1، ص242).

ولكن التفوق كان سلبياً عدائياً وتحقيق الذات صار فعلاً للجريمة؛ لأنه نتاج العاهات، حيث قام ريتشارد بقتل أخيه وأبنائه بتخطيط منه، وقتل ابن عمه الذي كان يتعاون معه في ارتكاب الجرائم (غير أن هذه العاهات بالنسبة لشكسبير هي أكثر من نذير بالشر: إنها رموز الشذوذ الذي فُطِرَ عليه ريتشارد، الصورالخارجية لفساده الداخلي إنها صفة جسدية، تضعه مكرهاً بعيداً عن الناس، وفي ذلك انعكاس للوحدة الداخلية التي ينميها طائعاً بحفاظه على أفكاره لنفسه ورفضه الاعتراف بالعُرى الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم) (6، ص18).

وكان ذلك واقعاً تحت تأثير الشعور العام بالقصور الذي يولد به الإنسان، والعمل المستمر نحو تحقيق هدف السيطرة والتفوق) (4، ص106).

إن الشعور بالقصور أصبح حالة مرضية عند ريتشارد، مما جعله يعاني ويجعل من القصور مرادفاً للتفوق كتعويض عن حالة القصور التي جُبِلَ عليها (ولكن هذا الشعور بالقصور لم يستطع التنفيس عنه من خلال العلاقات السوية المحيطة به، ولذلك تحولت إلى عقدة و(العقدة النفسية بالذات تُثير، على نحو أوتوماتيكي رد فعل قوي على شكل حافز مُلّح نحو التفوّق (1، ص442) لذلك كان سلوكه دموياً ورد فعله سريعاً، وذلك لوقوعه تحت تأثير الحافز الملُح الذي يطالبه بالتفوق على الأقران وتحقيق أهدافه الشريرة المرتبطة بحالة القصور.

إن طموحه في أن يصبح ملكاً ويأتمر بأمره الآخرون، هو إثبات بأن القاصر يمكنه أن يدير دفة المملكة والحكم أسوة بالأسوياء؛ لأن الإنسان وحسب استنتاج أدلر (كان يبحث عن القوة) (4، ص 895).

والسلطة التي تحققت لريتشارد هنا هي بلوغه السلطة السياسية دون تسلطه على ذاته التي يطغى عليها شعوره بالنقص.

وظل مطلب تحقيق الذات وتأكيدها هو الحافز للفعل والسلوك حتى بلغ قمة العرش؛ لأنه في الوقت الذي كان ينتهج طريق الشر كوسيلة لتحقيق ذاته القاصرة أصبح هذا الطريق هو الوسيلة والغاية لأنه دخل في مقومات شخصيته وتكوينها (فالقصور البدني في مثل هذه الحالات يعطي قوة إضافية ونشاطاً تعويضياً لبلوغ هدف ما يؤدي إلى السيطرة والتفوق داخل الذات) (4، ص206).

وعليه، فإن القصور يخلق مسافة شعورية بين الشخص القاصر والآخرين، ولا يمكن ردم هذه الهوة - حسب اعتقاد القاصر - إلا بالقيام بعمل ما، من شأنه أن يرفع من قدرهِ في عيون الآخرين الأسوياء ومشاعرهم، ولا يهم نوع الفعل، فهو يتراوح من الجريمة إلى الأفعال السامية، بقصد تحقيق ذات أشمل وأكبر، حتى يمكن الإحساس بها والإشارة إليها من قبل الآخر، وبالتالي تتحول الرغبة في السيطرة والتفوق إلى حالة مرضية إذا لم تكن تسير في الحدود الطبيعية لمقومات الشخصية الإنسانية السوية.

3- أسلوب الحياة

انتهج رتشارد الثالث أسلوباً عدوانياً في حياته لتحقيق مآربه الأنانية، فتارة يكذب وأخرى يخادع وثالثة يقتل ويزّيف الحقائق، فهو الذي يقول عن نفسه قبل أن يصبح ملكاً:-

(دوق جلوستر إني اقترف الأثم وأبدأ بالشكوى

واتهم الآخرين بأشنع ما دبرت من شرور) (2، ص681)

لقد تدرج في أسلوب حياته بدءاً من الكلام الخادع المنمق والكاذب إلى أن أصبح مجرماً وقاتلاً بالفعل، فتحول من القصد والهدف إلى الفعل، وامتد تأثير فعله العدواني حتى صار له شركاء وأعوان في الجريمة و(من أجل أن يبلغ السيطرة على مشاعر القصور عنده فمن الضروري أن يتخذ أسلوباً محدداً في حياته) (4، ص995).

ومن مظاهر ذلك السلوك خداع المظاهر الخارجية له وزيفها، فيقول:ـ

(دوق جلوستر: المظهر - علم الله - قليلاً ما يتعلق مع طوية القلب، بل إنه قد لا يتفق معها أبداً ) (2، ص 232)

وحول كذبه وتاليبه أبناء أسرته وفتنهم بعضهم بعضاً يقول:ـ

(جلوستر، فلا دخل الآن لأزيده بغضاً لكلارنس بأكاذيب مدعمة أحسن تدعيم بالحجج القوية) (2، ص 641)

ويتعدى تزييفه لحقيقة شخصيته وأهدافه إلى الذي كان عنصراً مهماً وموثراً في تزكية سلوك الإنسان وسمو أخلاقه. ومما يقوله بخصوص تستره بالدين.

(جلوستر: وهكذا استشرى المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المقدس

فأبدو كالقديس وأنا أمضي في تمثيل دور الشيطان) (2، ص851).

لا شك في أن اعتلاله البدني وقصوره هو الذي بلور سلوكه لأن (علته البدنية كانت الوسيلة الكبرى في تشكيل أسلوب حياته) (4، ص106) هذا الأسلوب الذي كان مقيتاً من قبل الآخرين لكنه محبّب لريتشارد نفسه؛ لأنه أصبح طريقه إلى النجاة والحفاظ على شخصيته من الاندثار وتحقيق أهدافه.

ويتخذ (هذا التعويض أحياناً أشكالاً من العنف تبلغ حداً متطرفاً لا تنتظره منه، وهو ما يعرف باسم التعويض النفسي الزائد) (4، ص595).

إن زيادة التعويض النفسي تؤدي إلى خلاف مع المحيط الاجتماعي، وتظهر في أكثر الأحيان على نحوٍ عدائي وبجريمة تنتهي بالدم، حيث يقول ريتشارد:ـ

(ريتشارد الثالث: ولكني قد انغمست الآن في الدماء

ولا بد أن تدفع الخطيئة إلى الخطيئة،

ولا مكان لدموع الرحمة في عيني) (2، ص792).

إن السيطرة والنجاح الذي حققه ريتشارد الثالث على أعوانه وأهله من آل يورك هو حالة تعويض عن الحالة القاصرة التي يحددها بالضرورة (أسلوب حياة الفرد والطريقة التي يهدف بها الفرد إلى تحقيق السيطرة) (4، ص795) وهناك ثلاثة عوامل يعتبرها أدلر من أهم العوامل التي تؤثر في السلوك، وهي:-

1- القوى البيئية

2- العوامل الاجتماعية

3- التنشئة الاجتماعية للفرد) (4، ص995).

ونلاحظ ارتباط هذه العوامل جميعها بالعالم الموضوعي والمحيط. حيث كانت علاقة ريتشارد بكل هذه العوامل السالفة الذكر علاقة سلبية. ويمكننا أن نفسر الكثير من سلوكه على ضوء أسلوب الحياة، فكان مبدأه في التعامل يتشابه إلى حد كبير مع فلسفة ميكافيلي، من أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا يدخل من باب التفسير السياسي والآيديولوجي للشخصية.

ولكن لو لم تكن هذه العوامل ذات تأثير سلبي على ريتشارد، أي لو أنها تبدلت وعاش فيها ريتشارد، لتغير أسلوب حياته ومن ثم سلوكه (فمع تغيير البيئة واختلاف الذوات الداخلية يختلف أسلوب حياة الأفراد) (4، ص006).

نحصل على شخصية سوية تسلك مسلكاً صحيحاً، ولكن عند ذاك نفقد هذه الشخصية العميقة المؤثرة في تكوينها الجسماني وأسلوب حياتها الذي صار درساً يبتعد عنه كل ذي عقل راجح.

4- الذات الخلاقة

حينما يعاني المرء من عوق ما يصاحب ذلك العوق انفعالات مدمرة، وهذا أمر طبيعي للغاية (وقد تشمل هذه الاستجابات مشاعر اليأس والقلق حول المستقبل وفقدان تقدير الذات) (7، ص002).

وبذلك يصبح إزاء هذه الانفعالات أمر حتمي بحكم قوانين الطبيعة والمجتمع، ولا يمكن تحديد صورة الانفعالات إذا كانت حبيسة الدواخل، لكن الاستجابة لا تتحقق - العدواني منها والسليم - إلا بوجود الآخر الإنسان، الحيوان الطبيعة، وحتى الجماد أحياناً وحسب التفاعل معهم، إذ إن كثيراً من الشخصيات المعاقة فسلجياً أو المشوهة خلقياً تكتم عدوانيتها بطريقة وأخرى أمام آخر مسالم يحاول أن يحتوي عدوانيتها وشرها، وبالعكس تستمر العداوة في حالة الآخر المشاكس.

وإذا لم تجد العدوانية المساحة الكافية التي تتفجر فيها. فإنها تتحول إلى داخل الذات. وهنا تتصاعد العدوانية داخل الفرد وتتحول إلى وسط تعذيب هادىء، لذلك أصبح إيمان ريتشارد بالقصور هو (الحافز الرئيس الذي يدفعه إلى محاكاة قدرات الآخرين) (4، ص595).

فحاول الانتصار عليهم عبر وسائل وأدوات شتى وراح يخطط لنفسه بالسر دون أن يعلن مشروعه لأحد، وكان يبغي التفوق عليهم لسد النقص الفردي بحالة تعويض اجتماعي كبير، فهو تجاوز الفردي نزوعاً إلى السلطة والحكم؛ لأنه المطلب الوحيد الذي يسد القصور الذي ناقشه مع دواخله والذي يفرض من خلاله على الآخرين حاجتهم إليه كرجل سلطة يمتلك الأمر والنهي وتقرير مصائر الآخرين.

(ولكي نفهم الفرد أصبح لزاماً علينا اكتشاف الهدف الذي يرمي إليه في الحياة، وكما يدعي أدلر فإن هذا الهدف يظهر في كل فعل منفرد يقوم به الفرد) (1، ص 342) سوياً كان أو معتلاً. فعلى الرغم من أننا لا نشاطره أهدافه اللاحقة التي كان يصير إليها لكننا لا ننكر رسمه الطريق الذي يسلكه، حيث كان عميقاً ومخططاً له تخطيطاً ذكياً وخلاقاً. فهو إلى جانب الذوات المحيطة به كان أكثرها خلقاً لذاته بتحقيق أهدافه ورسمه للوسائل التي توصله إلى أغراضه وأطماعه خاصة وأن الذات الخلاقة هي (ذات مبدعة تخلق شيئاً لا على غرار سابق تخلق شخصية فريدة فهي إذن ذات خلاقة) (4، ص406). حيث تتحقق لا من تفرد حاملها فحسب بل ومن ضعف قدرات الآخرين المحيطة بها؛ لأنهم سلكوا طرقاً واستخدموا وسائل بالية في التعامل مع جديد الأحداث والوقائع. وفعلاً هكذا كان ريتشارد في خلقه وتحقيقه وتأكيده لذاته في وسائل حياته وأهدافها. حيث كانت الذات الخلاقة له (يمكن أن يعني ذلك موقفاً لا اجتماعياً قوياً عندما يصبح الشخص الذي لم يؤكد ذاته من خلال إنجازه الموجب مثار انتباه الآخرين بوساطة سلوكه الحياتي المضاد للمجتمع) (1، ص ص 542).

إن تحقيق ذات ريتشارد صار على حساب المجتمع لبلوغه أهدافه بوسائل غير نزيهة، فالكذب والنفاق والقتل كانت وسائله التي تشبث بها لتحقيق مآربه، لذا ارتبطت ذاته بسلوك جنائي معادٍ للمجتمع.

ولو اقتصرت دوافع (ريتشارد على عوقه فحسب، لما استطاع أن يخطط بهذا الشكل البارع؛ لأنه كان يحمل في داخله ذكاء ودبلوماسية خارقة، وكان ريتشارد الثالث يشبّه نفسه بمكايافلي، وهو أمير حقيقي، إنه، في أي حال، أميرٌ قرأ كتاب (الأمير). السياسة له بمكافيلي، فن غايته الحصول على السلطة، السياسة لديه لا صلة لها بالأخلاق، شأنها شأن فن بناء الجسور، أو المبارزة بالسيف) (8، ص 45).

وعلى هذا الأساس، فإنه كان يجمع شخص المعوق، زائداً السياسي، مضافاً إليها بعده عن القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الملوك والقادة، لكنه فقدها فوقعت الجريمة.

5- الأهداف الوهمية

إن سعي ريتشارد المحموم نحو تحقيق ذاته المعتلة وتأكيدها بأساليب غير مشروعة، جعله منجراً لذاته، أي أن نفسه صارت وسيلة دنيئة لتحقيق الأهداف، بمعنى أن أهدافه تجاوزت ذاته وأذلتها؛ لأن تلك الذات التي تحققت بالسيطرة على الآخرين وخلصت إلى تحقيق الهدف المرسوم لم تعد كافية لتغطية الطموح المستجد في مسيرة البطش (لأن السيطرة لا تعني فرض السيطرة على الآخرين وإنما يعني به السيطرة على الذات) (4، ص 895) التي انفلتت عند ريتشارد من عقالها وراحت تبحث عن أهداف أخرى تجاوزها في مسيرته العدوانية الأولى. فبعد أن حقق الأهداف التي أوصلته إلى العرش تولدت أهداف أخرى تحتاج إلى مخططات جديدة، ربما كانت وهمية إلى حد كبير بحيث طغت على شخصيته، وقادته نحو الهاوية (وهكذا تسير العملية من مشاعر القصور إلى محاولة تعويض وبذل جهد لبلوغ أهداف جديدة ومستوى جديد)، (وقد تكون أهدافاً فعلية أو وهمية وهذا جوهر الحياة) (4، ص695).

فإن كان الإنسان سوياً فإنه يبحث عن الأهداف التي يمكن تحقيقها فعلاً؛ لأنها ستكون في متناول يده لتحقيقها، وبالتالي يمارس ذاته عملياً من خلال هذا الواقع دون المساس بأحد. أما بالنسبة لريتشارد فقد انتقل من الأهداف الفعلية التي تحققت على أرض الواقع (قتل، طموحات، صعود غير مشروع للسلطة.. الخ) إلى الأهداف الوهمية التي راح ضحيتها (والهدف قد يكون وهماً وخيالاً؛ لأنه بعيد عن الواقع، كما أنه قد يكون بعيد المنال بالنسبة للذات الخلاقة التي تهدف إلى السيطرة) (4، ص506).

ويرتبط الوصول إلى هذه الأهداف (باللجوء إلى ما لا يحصى من الحيل والوسائل) (5، ص441).

وفعلاً هذا ما قام به ريتشارد في ابتكاره وسائل الخداع والتزييف العديدة لبلوغ أهدافه التي كان دافعها الأساسي الإحساس بالقصور (لأن الإنسان يهدف فحسب إلى السيطرة والرغبة في السيطرة تبزغ من الإحساس بالقصور أو العجز أو عدم الكفاية) (4، ص 895).

ونلاحظ أن القصور يشكل تأثيراً كبيراً على سلوك الشخص وأهدافه في حالة التعويض (وليس ثمة شك أن مثل هذا التعويض للقصور البدني لا يتم بطريقة آلية وبسيطة بل قد يبذل الفرد جهوداً مضاعفة من أجل بلوغ أهدافه) (4، ص206) سواء أكانت الأهداف فعلية أو وهمية، فالمهم رسوخها في الذات؛ لأن ذلك يولد الإيمان بها ويدفع إلى ضرورة تحقيقها، ولأنها سترتبط بالذات وتصبح العنصر المحرك في كيان الفرد لبلوغ أهدافه، لا سيما وأن السلوك مرتبط بغاية على اعتبار (أن السلوك البشري هو غائي، النفس مصممة باتجاه هدف ما عن طريق حركات) (5، ص641).

تلك التي كانت فاضحاً لأهداف ريتشارد ومسالكه الملتوية، فحركاته تضم إشارات وإيماءات تفضح هذا السلوك العدواني مثل محاولته الانتحار بسيف ملتوٍ (فإن الإنسان تحركه توقعاته للمستقبل أكثر مما تحركه خبرات الماضي، فالمستقبل هو الذي يشكل ما سوف تفعله ذاته الخلاقة في أي لحظة معينة) (4، ص406). مستقبلاً، أما الماضي فهو الخزين الذي يوفر أساليب التحرك، و
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://brahimi.forumarabia.com
Admin
Admin



عدد المساهمات : 254
نقاط : 698
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 26/07/2011
الموقع : https://brahimi.forumarabia.com

نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Empty
مُساهمةموضوع: رد: نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4)   نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4) Emptyالأحد ديسمبر 11, 2011 9:35 pm

أزمة العلامه‏

2 ـ نظرته للنص‏

3 ـ النص والأثر‏

4 ـ الممارسة النصيّة‏

ما النّصُّ في معناه الشَّائع؟ إنّه المساحة غير العاديّة للأثر الأدبيّ؛ إنّه نسيج من الكلمات الرَّاسخة في الأثر والمنتظمة على نحوٍ تُفضي فيه إلى معنًى محدَّد ووحيد إنْ أمكنَ. وبالرّغم من الطَّابع الجزئيّ والبسيط لفكرة "النّصّ" (وهو في الآخِر ليس إلاّ موضوعاً قابلاً للملاحظة بواسطة الحاسّة البصريّة)‏

فإنّ النّصّ يساهم في إفراز القيمة المعنويّة للأثر فهو خادمُه البسيط ولكنْ لا غنًى عن خدماته. ولمّا كان النّصّ تقريباً على صلة تكوينيَّة بالكتابة (النّصّ هو ما كُتِبَ) ـ لأنّ صورةَ الحروف ذاتها بالرّغم من أنّها تظلّ خطّيّةً إلاّ أنّها توحي أكثر من الكلام بتشابك النّسيج (النصّ يعني اشتقاقاً النّسيج) ـ فإنّه هو المولِّد ـ في الأثر ـ لضمان الشيء المكتوب الّذي ينهض بوظائف صيانته وذلك من ناحية الثّبات والتّسجيل الدّائم الهادف إلى تجاوز ضعف الذّاكرة وأخطائها، وهو من ناحية أخرى تأكيدٌ لشرعيّة الحرف والأثر السّاطع الذي لا يمّحي للمعنى الّذي أودعه صاحبُ الأثر عن قصدٍ في النّصّ. إنّ النّصّ سلاح في وجه الزّمن والنِّسيان وخُدَع الكلام الذي سرعان ما يتراجع ويتلاشى ويتنكَّر لنفسه. إنّ فكرة النّصّ مرتبطة بعالم بأسْره من المؤسَّسات: الشرائع، الكنيسة، الأدب، التّعليم؛ النَّصّ موضوع أخلاقيّ فهو المكتوب ما دام يشارك في العقد الاجتماعيّ. إنّه يُلْزمُ ويَقْضي بأن نضعَه نصبَ العيْن ونحترمَه ولكنّه في المقابل يسمُ اللّغةَ بصفةٍ لا تقدَّر بثمن (وهي لا تنبثق عن جوهره) إنّها صفةُ "السَّلامة".‏

1) أزمة العلامة:‏

يمثِّل النص, من الناحية الابستمولوجيّة، ومن وجهة نظر كلاسيكية, قسماً من مجموع المفاهيم مركزها (العلامة)، لذلك ندرك الآن أن (العلامة) تمثل مفهوماً تاريخياً وأثراً فنياً تحليلياً (وحتى إيديولوجياً)؛ ففكرة النص تقتضي أن تكون الرسالة المكتوبةُ le message ècrit خاضعةً للتقطيع مثل العلامة: فمن ناحية يوجد الدال (الجانب المادي للحروف وتسلسلها في كلمات وجمل وفقرٍ وفصول) ويوجد من ناحية أخرى المدلول أي المعنى الأول والواضح والنهائي والمحدد بواسطة علامات تحمله. إن العلامة بالمفهوم التقليدي الفيلولوجي هي وحدة مغلقة يترتب على انغلاقها إيقاف للمعنى ومنع له من الحركة ومن الازدواجية ومن التطواف؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى (النص) الكلاسيكي: يغلق الأثر ويقيده بحروفه ويوثقه كتافاً إلى مدلوله. إن دور الفيلولوجيا القديمة هو إعادة ترميم معنى النص المهدد بالتلاشي, لذلك مثل (النص) في القديم مداراً لكل الاتجاهات التأويلية les ghermèneutiques, فعبر ترميم الدال يقع الوصول إلى التأويل المعياري للمدلول: النص يحمل اسم الأثر المسكون بمعنى وحيد, معنى "حقيقي" ونهائي. إن النص إذن هو هذه الأداة العلمية التي تحدد بنوع من التسلط قواعد القراءة السرمدية. إن هذا المفهوم للنص مرتبط بطبيعة الحال بميتافيزيقا الحقيقة mètaphysique de la vèritè. إن تاريخ (الحقيقة) و(العلامة) و(النص) يمتد على قرون, هو نضال من أجل "الحقيقة" باسم "معنى" ما ضدَّ "معنى" آخر؛ هي فصول من الحيرة والقلق والشك أمام ضبابية العلامات وغموضها. إنه تاريخ دموي حينا وقاس أحياناً ربط بين الحقيقة والعلامة والنص؛ ولكنها الأزمة نفسها تطال القرن الأخير في مجال ميتافيزيقا الحقيقة (نيتشه) وتطال اليوم أيضاً مجال نظرية اللغة والأدب عن طريق نقد إيديولوجي للعلامة وذلك بتعويض (النص) الكلاسيكي المرتبط بأهل الفيلولوجيا القدامى بنص حديث. إن هذه الأزمة شرعت أبوابها اللسانيات نفسها. لقد صرفت اللسانيات (البنيوية)، بطريقة غامضة (أو جدلية), لعنايتها العلمية إلى مفهوم العلامة (المقطعة إلى دال ومدلول) مما قد يوحي بأن ذلك ضرب من الانتصار لنوع من ميتافيزيقا المعنى. ولكن اللسانيات أجبرت، بالتسلط نفسه، جهازَ الدلالة l'appareil de la signification على التحرك والتفكك والانقلاب. ففي قمة اللسانيات البنيوية (في حدود 1960) بدأ كثير من الباحثين, غالباً ما أفرزتهم اللسانيات نفسها، في توجيه خطاب نقدي للعلامة وإعلان نظرية حديثة للنص (والتي تسمى في القديم "نظرية الأدب").‏

ففي عمق هذا التحول لعبت اللسانيات دوراً ثلاثياً باتجاه المنطق والشعرية والسيميولوجيا:‏

* اللسانيات/ المنطق: احتكت اللسانيات بالمنطق الذي صار مع كارناب Carnap وريسيل Russel وويتجنستن Wittgenstein عبارة عن لغة عودت الباحث على تعويض مقياس (الصحة) بمقياس (الحقيقة) وعلى إطِّراح كل لغة تحاكم المضمون وتتسلط على المعنى وعلى اكتشاف ثراء التحولات في أبنية الخطاب دقة واتساعاً. فقد نتج من خلال ممارسة الشكلنة على غرار أصحاب المنطق التعرف الكامل على الدال وعلى اكتفائه بنفسه وعلى مدى انتشاره.‏

* اللسانيات/ الشعرية: بفضل أعمال حلقة براق Prague وأعمال جاكبسون عاد إلى الضوء ثانية الكلام على الخطاب: فجزء كبير من الأدب انتقل إلى اللسانيات (على مستوى البحث إن لم يكن على مستوى التدريس) تحت اسم "الشعرية" Poètique (وهي ترجمة كان فاليري Valèry قد رأى فيها ضرورة) وأفلتَ بذلك من نوعٍ من المقاضاة لتاريخ الأدب الّذي كان يُنظَر إليه على أنَّه مجرَّد تأْريخٍ للأفكار والأجناس.‏

* اللسانيات / السيميولوجيا: إن السيميولوجيا علم جديد افترض دي سوسير قيامه منذ بداية القرن ولكنه علم لم يبدأ في التطور إلا في حدود 1960 وقد سار أساساً، على الأقل في فرنسا، باتجاه تحليل أجناس الخطاب الأدبي؛ فاللسانيات تتوقف عند الجملة وتتيح بعناية وصفاً للوحدات التي تكونها (مركبات Syntagmes/ لفاظم monèmes/ صواتم phonemes) ولكنْ ماذا عساه يكون الأمر بالنسبة إلى ما وراء الجملة؟ ما هي الوحدات البنيوية للخطاب (إذا ما تخلَّيْنا عن التقسيمات المعيارية للبلاغة القديمة)؟ هكذا احتاجت السيميائية الأدبية إلى فكرة (النص) باعتبارها وحدة خطاب عليا أو أكثر عمقاً من الجملة التي تبقى من الناحية البنيوية مختلفة عنها: يقول تدروف عن فكرة (النص): "عن فكرة النص لا تقع في المستوى نفسه الذي تقع فيه الجملة [..] ففي هذا الاتجاه ينبغي أن يكون النص متميزاً عن الفقرة وهي وحدة طوبوغرافية من عدة جمل. فمثلما يمكن أن يتطابق النص مع جملة واحدة يمكن أن يتطابق مع كتاب بأكمله [...] إنه يشكل نظاماً لا ينبغي جعله مطابقاً للنظام اللغوي ولكن يجب إقامة الصلة بينهما, إنها صلة من التجاور والتشابه".‏

إنّ النص، من منظور السيميائية الأدبية الصارمة، يعتبر, في وجه من وجوهه، الوعاء الشكلي للظواهر اللسانية؛ ففي مستوى النص تقع دراسة علم مضمون الدلالة sèmantisme de la signification (وليس فقط المضمون الدّلالي للتواصل) والتركيب السردي أو الشعري. إن هذا المفهوم الجديد للنص القريب أكثر إلى البلاغة منه إلى الفيلولوجيا يريد في المقابل أن يكون متوافقاً مع مبادئ العلم الوضعي فيدرس النص في ذاته لأنه لا يمكن الاعتماد على أية إحالة على مضمون أو على مؤثرات تتجاوزه (سواء أكانت اجتماعية أم تاريخية أم نفسية) باعتبار أن النص, كما هو الحال في أي علم وضعي, ليس إلا موضوعاً خاضعاً للرقابة عن بعد من قبل ذات عالمة. لا يمكن إذن الكلام، في هذا المستوى، على تحول ابستمولوجي. فهذا التحول يبدأ عندما تتنزل عن وعي مكتسبات اللسانيات والسيميولوجيا (بعد أن تضفى عليها النسبية تحت غطاء الثنائية: هدم/ إعادة بناء/ في حقل مرجعي جديد محدد أساساً بواسطة التواصل الداخلي لفلسفتين معرفيتين مختلفتين: المادية الجدلية (ماركس Marx, انقلز Engels, لينين Lènine, ماو Mao) والمرجعية الفرويدية (فرويد Freud, لاكان Lacan). فهذا المسلك هو الذي يتيح، يقيناً, تحديد عناصر النظرية الجديدة (للنص). ولكي يكون هناك علم جديد لا يكفي أن يزداد العلم عمقاً أو انتشاراً (وهو ما يحدث عندما نمر من لسانيات الجملة إلى سيميائية الأثر) بل ينبغي أن يكون هناك لقاء بين فلسفات معرفية مختلفة‏

épistémés différentes بله غير معروفة الواحدة منها حيال الأخرى (كما هي حال الماركسية والفرويدّية والبنيويّة) كما ينبغي أن يُنْتَج هذا اللِّقاءُ موضوعاً جديداً (ولا يتعلَّق الأمر بمقاربة جديدة لموضوعٍ قديمٍ) إنّه في هذه الحالة موضوعٌ جديد اسمُه (النَّصّ).‏

2) نظريّة النّصّ:‏

إنَّ اللغة التي نقرر استعمالها في تقديم تعريف للنص ليست قليلة الأهمية لأنه من مقتضيات نظرية النص طرح كل ملفوظٍ على بساط السؤال بما في ذلك الملفوظ المتعلق بالنص تحديداً: نظرية النص حساسة، وعلى نحو مباشر، تجاه أية ميتالغة تتضمن مراجعة لخطاب العلمية، وهنا، وفي الوقت الذي تقتضي فيه نظرية النص تحولاً علمياً حقيقياً، فإن العلوم الإنسانية لم تضع اللغة الخاصة بها موضع سؤال معتبرة إياها مجرد أداة أو ستاراً شفافاً في غاية الصفاء.‏

إن النص هو عينة لغوية تتنزل بنفسها في أفق من اللغات؛ فأن ينعقد التواصل على بعض المعارف أو الأفكار النظرية حول النص فإن ذلك يقتضي التعويل بطريقة أو بأخرى على الممارسة النصية La pratique textuelle. إن نظرية النص يمكن بلا ريب أن تفصح عن صيغة خطاب علمي متماسك أو محايد ولكن يكون ذلك على الأقل وفق حالة ظرفية ومنهجية؛ وإلى جانب أسلوب العرض هذا، سنجد من المشروع جداً أن ندرج في عداد نظرية النص التنوع الهائل للنصوص (مهما يكن الجنس وتحت أي شكل ينضوي النص) التي تعالج انعكاسية اللغة‏

la réflexivité du logage ودورة التلفظ. هكذا يمكن أن يقترب منا النص بواسطة التعريف definition ولكن (وقد يكون بصفة أخصّ) بواسطة المجاز.‏

لقد أنجز تعريف للنص باتجاه غايات ابستمولوجية أساساً من قبل جوليا كريستيفا إذ تقول: [نعرف النص بأنه جهاز مجاوز للغة translinguistique يعيد توزيع نظامها مقيماً الصلة بين كلام تواصلي هدفه الإخبار المباشر وبين ملفوظات مختلفة سابقة وآنية]. فإلى جوليا كريستيفا يرجع الفضل في ضبط المفاهيم النظرية الرئيسية التي يحتوي عليها ضمنياً هذا التعريف للنص: تطبيقات دالة Pratiques signifiantes وإنتاجية productivité وإدلال signifiance وفينو ـ نصّ phéno-texte وجينو ـ نصّ géno-texte وتناص intertextualité

النقد المنهجي و نقد المنهجية(5)

نقرأ كتابات كثيرةً، كلّ يومٍ، حول كتابٍ، أو مسرحيةٍ، أو قصيدةٍ، وربما أغنية أو خطاب أو رأي ... على أنّ هذه الكتابات تبقى آراء شخصيةً لا تحمل منهجاً نقدياً واضحاً، كما يغيب، في كثير من الأحيان، الهدف المنشود منها. فلا بدّ، إذاً، من غايةٍ للنقد، في ضوئها تحدد المناهج و التقنيات.

قد تكون الغاية إزالةَ صعوبةٍ في الكلام (مكتوباً أو مسموعاً)، أو اختيار الأفضل من نصّينِ أو نصوص متعارضة. أو تكوين أحكام للأدب أو عليه. إلا أن الوصول إلى هذه الغايات منفردة أو مجتمعة يبقى مبهماً، ناقصاً، مضطرباً، و احياناً غوغائياً، إذا لم يقترن بمنهجٍ أو تقنية. وعليه فإني أميل إلى عدم استعمال ملفوظة " النقد "، لما تحمل في مضمونها من اختيار بين الجيد و السّيئ ، و بين القبيح والجميل، و بين الراي و الرأي المضاد.

ولما يحمله السوء و الجودة و القبح و الجمال من مفاهيم غامضة نزاعية، تتعلق أكثر ما تتعلق بالذوق و الإرث و الثقافة و الحضارة. لذلك أفضل استعمال ملفوظة " الدراسة " أو " المقاربة ". لأننا في فعل دراسة أي منتج أدبي أو فنّ جميلٍ لا يمكن أن ندّعي امتلاك المعايير و المنهجيات كلها. و بالتالي امتلاك أحكام نهائية أو ثايتة الوقت كلّه.

و المناهج أو المقاربات عديدة ، نذكر منها :

المنهج التاريخي:

يصعب فصل هذا المنهج عن تاريخ الأدب. فهو مقاربة خارجية عن النص. و أحياناً تكون وصفية (= تصحيحية) بحسب أيديولوجية دينية ، أو أخلاقية أو سياسية أو غيرها من الأيديولوجيات.

هي مقاربة " نعتية " بمعنى أنها تضيف كثيراً إلى النص بوساطة إعادة الصياغة. فهي تكثر من التوسط بين المؤلف و النص، بين المنتِج و المنتَج، أو بين النص و القارئ. هي مقاربة تكوّنية تُعنى بالأصل و النشوء أي بأصل و تاريخ الأثر.

و يعتقد أصحاب هذا النهج أنه من الضروري معرفة صاحب الأثر و الأحوال السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في زمانه لكي تُفهم آثاره.

و قد تنشأ من هذا النهج مقاربتان :

1- المقاربة الفقهية (= التاريخية) Philological ، وهي مقاربة أكاديمية معرفية واسعة ، تُعنى بالتحقق من الكتب و المخطوطات من أجل نشرها و تصنيفها. و لهذا فهي تستعين بعلمي الببليوغرافيا Bibliography و التأريخ Historiography .

إنّ المقاربة الفقهية – من الببليوغرافيا إلى التأريخ – تهتم بالأسلوب و التصميم و المقارنات. ما يهمها هو ما قبل النص (l'avant – texte) لأنه السبيل إلى إنشاء طبعة نقدية. وقد تتمهّل أمام التأثيرات المختلفة بين الآثار أو بين أصحابها لتكوّن سجلاًّ تاريخياًّ للأفكار و الذهنيات.

2- المقاربة النفسية أو البسيكلوجية.

غالباً ما يكمّل المنهج النفسي المنهج الفقهي. وهو منهجٌ عاطفيٌّ تبسيطي، يحكي عن صاحب الأثر أكثر مما يحكي عن الأثر عينه. وقد تجنح المقاربة فيه إلى الدهماوية (= الديماغوجية demagogy ) بقدر ما تجنح إلى إعطاء الدروس في أحسن الأحوال. فالمنهج الديماغوجي يسيطر على "النقد" الصحافي : فالصحيفة تمرّر الدعاية على أنها معلومة. و الترويج على أنه رأي، و الإعلان على أنه شعبية. ولا يسعى إلى شرح النص، و إنما إلى توريط القارئ من خلال إلصاق بضع "وصفات" بالنص: فهو يلخّص، يكرّر، يدعو، يُمجّد أو يضحّي ... إلخ.

وباختصار، إنّ المنهجين : الفيلولوجي (= اللغة والأسلوب)، أو البسيطولوجي (الشخصيات و المواضيع الكلامية) لا ينفصلان داخل المنهج التاريخي الذي يقوم على استقدام الأدب إلى الأثر أو إلباسه معطفاً أدبياً، ليكون بذلك نقداً أسلوبياً: ففي المنهج الفيلولوجي الأثر هو أسلوب الكاتب، وفي المنهج البسيكولوجي أسلوب الأثر هو الكاتب. ولنوضح أن الفيلولوجيا، أو الببليوغرافيا تقرأ الأثر في حياة المؤلف (كاتب و مجتمع، أسلوب ولغة). أما البسيكولوجيا أو البيوغرافيا (= سيرة المؤلف) فتقرأ حياة المؤلف (منفرداً أو مجتمعاً) في الأثر (Jean – Marc Lemelin).

المنهج التفسيري / التأويلي

وهكذا راينا أن النقد القديم أو المنهج القديم (= المنهج التاريخي) يزاوج بين الفقهية المعرفية الواسعة و التبسيطية البسيكولوجية : معرّفةً الأثر بالمؤلِّف. أمّا المنهج الحديث ( كما يحلو للبعض أن يسميه )، أو المنهج التفسيري / التأويلي فيُعرّف، بالأحرى، المؤلّف/الأديب بالأثر/ المؤلَّف.

فيبدو بذلك أكثر ذاتية على أنه داخليّ (= داخل النص) أكثر من المنهج التاريخي. و يُعنى بأمرين اثنين :

الأول:

المقاربة الرمزية / الشكلية Formalism/Symbolism

إنّ مقاربة شكلية / رمزية للأدب تتطلّب قراءة دقيقة للنص. فالشكليون / الرمزيون يؤمنون بأن معرفة الأثر الأساسية و المنشودة، تكمن داخل الأثر عينه. فلا حاجة للإتيان بما هو خارجيٌّ كالمعلومات التاريخية و السياسية و الاجتماعية في زمن الأثر. أو تلك المتعلقة بحياة صاحبه. وهم ،(افتراضا ً), لا يبحثون في الآثار من خلال المنهج النفسي (البسيكولوجي)، أو الميثولوجي أو الأنثوي، أو غيرها من نقاط الاستشراف. كما لا يهمهم تأثير العمل الأدبي في القارئ أو السامع.

فهم يعتبرون أن المواضيع (الكتابة أو الكلام) تتحقق في الصور و الخيال و المجاز والمتخيّل و التّهكّم و المفارقة (= الموهم للتناقض) و الاستعارة. وكلها على شكل رموز ( غاستون باشلار ). و إذا كانت هذه الرموز تمثل أساطير أو خرافات فعندها يمكن التحدث على نقد ميثولوجي (= أسطوري) يستمد مادته من الميثولوجيا أو من علم الأعراق البشرية ( = الاثنولوجيا ) ( كلود ليفي شتراوس).

و أما إذا كانت مرتبطة بالتعقيدات النفسية فيجوز عندها الدخول فيما يسمى بالنقد النفساني الذي يستعين بالتعاليم الفرودية (Freud) أو الجنجية (Jung) على السواء.

الثاني:

المقاربة الفكرية (thematic) بحسب الأفكار الرئيسة و موضوع الكلام :

تتشعب و تتكاثر في هذه المقاربة أنواع شتى من المواضيع (themes) : النفسانية و الميثولوجية و الاجتماعية و الفلسفية و النفسية – الاجتماعية و الاجتماعية – التاريخية ( الدينية و الأخلاقية و غيرها ... ).

فإذا ما جمع علم الأفكار المواضيع الفلسفية أو الدينية فعندها يمكن الكلام على النقد الفلسفي . و فيما يلتصق هذا الأخير، من قريب أو بعيد، بالفلسفة الوجودية (جان بول سارتر، دوبرفسكي) ، فإنّ النقد الاجتماعي يلتصق هو الآخر بالفلسفة الاجتماعية أو الشيوعية. و لسنا في معرض الدخول في تفاصيل و تشعبات هذا النقد المعقّد إلا أننا نستطيع التلميح – على سبيل المثال – إلى واقعية لوكاكس Lukacs ، و إلى البنيوية المورّثية / الجينية لغولدمان في الفلسفة و علم الاجتماع الأدبي و علم الاجتماع الروائي. كما نلمّح إلى شخصانية أو وجودية ( فالاردو Falardeau) المنهج الأخلاقي / الفلسفي

يرى أصحابه إلى الأدب بوصفه موجّهاً أخلاقياً و محققاً لمسائل فلسفية. فعلى الآثار الأدبية / الفنية أن تحمل جدّيةً عليا. و على الأدب أن يُظهر نصحاً أخلاقياً أو حكمةً أخلاقية ً ، و أن يذهب مذهب المنفعة و تحقيق الخير الأعظم ( أفلاطون )، كما على الأدب أن يكون ممتعاً مثقّفاًَ منوّراً.

و قد تكون هذه المقاربة نافعة في بعض الروايات أو الحكميات حيث يتصادم الخير و الشر. إلا أنها مقاربة لا ترى إلى الأدب بوصفه "فناً " معزولاً عن التضمينات الأخلاقية. و إنما تعترف بالأدب مؤثراً في القارئ أو السامع، سواء باللطف أو بالمباشرة. و إن رسالته، و ليس "الزينة" الحاملة لهذه الرسالة، هي الأهم.

قد تجتهد في هذه المقاربة كثرة الأحكام (= المحاسبة و إصدار الأحكام و الأحكام المضادة). فالبعض يؤمن بأن يكون الحكم في الأدب أولاَ ( إذا لم يكن فحسب )، على فضائله أو ميزاته الفنية، و ليس على مضمونه الأخلاقي أو الفلسفي.

منهج المساواة بين الجنسين (Feminist) :

يهتم هذا المنهج باثر الجنس (= من حيث الذكورة و الأنوثة) في الكتابة و القراءة. و يبدأ عادةً بنقد الثقافة السلطوية (= الأبوية). كما يهتم بمكانة النساء الكاتبات. وهو يتضمن بحثاً في نظرية المساواة في النصوص. فالنقد القائل بالمساواة بين الجنسين سياسيٌّ. و غالبا ً ما يطالب بتعديل مواقف أو حالات، أو بتغييرها و إصلاحها. و يرى أصحابه أن مخاوف الرجل تُصوّر من خلال شخصيات نسائية. وفي كثير من الأحيان تقول حجتهم إن الجنس (= الذكورة و الأنوثة) يحدد كلّ شيء. أو بالعكس: إن الفوارق الجنسية كلها يفرضها المجتمع، و أن الجنس لا يحدد و لا يقرّر شيئاً.

و إذا أمعنّا في قراءة نتاج الروائيات والشاعرات العربيات خاصةً، و المتعاظم في الآونة الأخيرة، كما في النتاج النسائي عامةً، نلاحظ ثقافة تمر بمراحل ثلاث لا بدّ لمنهج المساواة أن يستعين بها كمادة لمقاربته. فالأولى هي المرحلة الأنثوية (= النسوية)، و تشمل محاكاة الصيغ السائدة و المنتشرة في التقاليد المسيطرة و الغالبة. و محاولة " تذويتها"، بمعنى إضفاء الصفة الذاتية على معاييرها و دمجها في النفس بحيث تصبح مبدأً هادياً (= صفة طبيعية فطرية).

و أما الثانية فمرحلة المساواة بين الجنسين سياسياً و اقتصادياً. و تشمل الاحتجاج ضد هذه المعايير و القيم و تدافع عن حقوق الأقليات و حقوق المرأة خاصة ً .

و أما الثالثة فهي مرحلة اكتشاف الذات و التحوّل نحو الداخل المعتق من تبعية المعارضة و المعارضين: هي بحث عن الهوية و الوجود (محمد العباس و مليحة الشهاب).

ولا شكّ في أنّ هذه المقاربة تساهم في تسوية و إصلاح شأن المرأة التي عانت ولا تزال من فقدان الحضور و المشاركة، و من حقوقٍ إنسانية ٍ عدّةٍ.

على أنها، وهي تدعو إلى المساواة، قد تسخّر النقد الأدبي أو ترميه في معركةٍ سياسيةٍ. وقد تُغفلُ آثاراً لها جدارتها بحجة أنها "سلطوية" .

و قد تسفّ أحياناً لتحيل عملاً نسائياً مميزاً إلى حالةٍ من الانعزال و التطرف مما يحرم الأدب النسائيّ من أن يأخذ مكانته الطبيعية في قائمة الأدب. و هذا كله من المحاذير أو من المساوئ التي قد يقع فيها المقاربون في منهج المساواة.

الشخصية الدرامية

(ريتشارد الثالث)

في ضوء نظرية علم النفس الفردي(6)

المقدمة :

يعدّ الكاتب المسرحي الإنكليزي وليم شكسبير من أهم كتاب المسرح على الإطلاق، لما تتسم به أعماله من تجليات خالدة على صعيد الفكر والقيم الفنية، حيث أبدع في رسم ملامح شخصيات عظيمة في عوالمها الداخلية وطموحاتها، ويمكن أن نطلق عليه - عن جدارة - بأنه مصمم كبير للنفس البشرية، وتتراوح شخصياته بين العاطفة الجياشة والغيرة القاتلة (عطيل) إلى العقل والتردد (هاملت) إلى الطموح المرضي للسلطة (ريتشارد الثالث) إلى غير ذلك من أنواع التراكيب السايكولوجية للشخصيات.

إن عمق شخصياته وتنوعها جعلها تكون مثار جدل ونقاش منذ القرن السابع عشر إلى الوقت الحاضر، ويعدّ القرن التاسع عشر قرن الآيديولوجيات حقاً، حيث ظهرت فيه الفلسفات باختلاف اتجاهاتها المادية والمثالية، وكشوفات على النفس، واستنتاجات دارون في أصل الأنواع، والنظريات الطبقية الاقتصادية، وغيرها.

كانت تلك الاكتشافات وفي كل الميادين بمثابة منظور جديد للناقد يساعده على اكتشاف مكنون عوالم شخصيات شكسبير، فدخل الصراع الطبقي في تحليل مسرحيات شكسبير مثل (روميو وجوليت) حيث كان الصراع محتدماً بين عائلة مونتاغو وعائلة كابيوليت.. وأصبحا (روميو وجوليت) هما الضحية، وجاءت نظريات التمييز العنصري تطبق على شخصية (عطيل) المغربي الأسود، وفلسفة العبث والتردد عند (هاملت)، وكان لانقسام العالم إلى معسكرين أحدهما - اشتراكي وآخر رأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية دور كبير في تعميق وتنويع وتعدد مثل هذه التحليلات والتفسيرات الخلابة. فالمعسكر الاشتراكي ونتيجة لإيمانه السابق بسلطة العوامل المادية والاقتصاية على الفرد، له تفسيراته الطبقية والموضوعية في التحليل بحيث كان يولي الأهمية القصوى للعوامل الخارجية (وسائل إنتاج علاقات إنتاج) ولذلك فهي لا تعتمد كثيراً على العوامل الذاتية والداخلية للفرد، وهذا ما لاحظناه عندما قام المخرج الروسي كوزنتسيف بإخراج هاملت للسينما، والذي حاول به أن يقرب صورة القلق العلمي والطبقي في عصرشكسبير الذي كانت فيه اكتشافات فرانسيس بيكون في أوجها وحياة الفلاحين وصيادي الأسماك وبين حالات العصر الحاضر، فكان إخراجه قراءة موضوعية مقارنة بين عصرين بينهما خيط مشترك يمثله بؤس المجتمع وبروز السؤال الفلسفي والدعوة إلى العمل والتغيير.

إن مناهج القرن التاسع عشر والقرن الحالي أصبحت منظاراً عميقاً للعودة إلى نتاج شكسبير الخالد في القرن السادس عشر. ولم يقتصر ذلك على التحليل الأدبي والنقد فحسب، بل امتد إلى العروض المسرحية من خلال تحليل الشخصيات الرئيسة وتحديد أبعادها بالصورة التي تتفق مع منهجية التحليل وفلسفته. فأصبح (هاملت) أكثر من هاملت وكذلك (عطيل ومكبث ولير وريتشارد الثالث) يتجددون في كل عصر. ومن تلك المناهج منهج التحليل النفسي الذي تزعمه سيجموند فرويد في بداية هذا القرن، الذي أكد فيه (الأنا - الهو - الأنا الاعلى) والغريزة (الليبدو) وعقدة أوديب، وأرجع علاقة الرجل بأمه إلى علاقة (أوديب الملك) بأمه (جوكاستا). وهي علاقة جنسية لا شعورية تدخل في كيان الولد الطفل منذ ولادته. بالضبط مثل (عقدة إلكترا) في حب أبيها (احاممنون) ومحاربتها لأمها كليتمنستا لقتل أبيها وزواج الأم من عشيقها (ايجستوس).

إن هذه الدوافع الغريزية (الفطرية) صارت تفسر في ضوئها الكثير من الشخصيات ومنها علاقة (هاملت) بأمه (جرترود) في مسرحية (هاملت).

ولم يبق فرويد وحده في ساحة المنهج النفسي، بل إن كثيراً من طلابه انشق عليه مثل يونج، وأدلر (صاحب أسلوب علم النفس الفردي) الذي اعتبر فيه أن لكل شخضية مقومات فردية خاصة لا يصح أن تعمم، وبذلك اختلف مع قوة الدوافع الباييولوجية والغريزية التي أسس عليها فرويد نظريته التي كانت برأي فرويد عالمية وتصلح لكل الأفراد ومن هنا بدأ الاختلاف في الطريقة والأسلوب ضمن المنهج النفساني الواحد.

إن شخصية (ريتشارد الثالث) التي كتبها وليم شكسبير تتمتع بمزايا تفرد كبيرة جداً وسط عالم لا يشببها في هيأتها أو في أهدافها ودوافعها، فكان أسلوب ألفريد أدلر هو الأنسب لتحليل هذه الشخصية الفريدة، وهي محاولة بسيطة على طريق اكتشاف أهمية مثل هذه الدراسات بالنسبة لممثلينا الذين يقومون بتمثيل مثل هذه الشخصيات العظيمة دون تحليل أو تفسير لأي شيء فيها فيؤدونها بعتمة تفسد متابعة ذلك العمق السامي والجليل.

المدخل

تعدّ شخصية ريتشارد الثالث واحدة من تلك الشخصيات الشكسبيرية التي تميزت بعمق أبعادها القابلة للتحليل والاجتهاد والتفسير وفق معطيات العصر الحاضر، وما وفّره للباحثين من وسائل ومناهج للتحليل يمكن أن نسلط الضوء من خلالها على شخصية ريتشارد الثالث من زوايا عدة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية.. إلخ.

وهذا ليس غريباً على عوالم وليم شكسبير وشخصياته لما امتازت به من غنى وشمول إنساني. إن شخصية ريتشارد الثالث، وفي إحدى زواياها البارزة، يمكن النظر إليها من خلال النقد النفساني وبالتحديد وفق مدرسة ألفريد أدلر الذي (سمى أسلوبه الجديد علم النفس الفردي؛ لأنه يركز على فردية كل شخص منكراً عالمية الدوافع البيولوجية والأهداف التي نسبها لنا فرويد) (3، ص76).

وما يعني بالقصور والشعورية، يصبح دافعاً لكثير من الأفعال التي تتسم بحب السيطرة كتعويض ما كان ينقصه من أعضاء جسمانية أو تشوهات خلقية، وما يتيح هذا النقص من تصدع في العلاقة مع المجتمع، بدءاً بالعائلة وانتهاءً بالمجتمع الواسع، وتأسيساً على ما تقدم ومن خلال تبني نظرية أدلر في تحليل شخصية ريتشارد الثالث، لا بد لنا أن نرسم محددات نظرية أدلر النفسية لتكون لنا منطلقاً وهادياً لتحليل الشخصية.

* وهذه المنطلقات كما يحددها دارسو أدلر.. هي:

1- القصور (الشعور بالنقص).

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق).

3- أسلوب الحياة.

4- الذات الخلاقة.

5- الأهداف الوهمية.

6- الاهتمام الاجتماعي.

1- القصور (الشعور بالنقص)

من منطلق البداية بالمادة المعروضة للتحليل. تبدأ المسرحية بمنولوج طويل يتلوه علينا دوق جلوستر - الذي يصبح فيما بعد ريتشارد الثالث - يوضح فيه ملامحه الفسيولوجية التي تحدد فيما بعد سلوكه إزاء محيطه

(أما أنا، الذي لم أسوَّ في خلقة تبيح لي أن أمارس

أفانين الحب

ولم أخلق لأمتع النظر بصورتي على مرآة حبيبة

أنا الذي خُلق على عجل ولم يؤت من جمال المحبين

ما يخطر به أمام حسناء مختالة لعوب

أنا الذي حُرِم اتساق القسمات

وزيفت الطبيعة الخادعة بنيته

أنا المشوه المنقوص الذي أرسل قبل الأوان

إلى هذا العالم النابض بالحياة ولما يكد يتم خلقه

أنا الذي تنبحه الكلاب إذا وقف عليها

لما تراه من بالغ عجزه وغرابة هيئته (ص، ص 83)

إن هذا المنولوج الطويل يوضح إلى حد بعيد موقف ريتشارد الثالث من العالم ومن نفسه، حيث يقف بمفرده إزاء ما يحيطه، وقد كان شكسبير عظيماً حينما جعل ريتشارد يتلو حواره هذا وهو يقف بمفرده، دون مجد أول الأمر، حيث انطلق من نقطة البداية، أي جعله يوضح نقصه مما يجعل الدوافع واضحة أمام المتلقي حيث (اعتقد أدلر بأن شعور النقص العام موجود دائماً ومهم كقوة مؤثرة في السلوك) 3، ص07).

يتضح القصور من الحركات الجسمانية والإيماءات والحوار الذي يطلقه، فها هو يكرر (أنا المحروم) و(أنا المشوه) و(أنا تنبحه الكلاب) وإلى آخر تلك النعوت التي يعكس فيها حقيقته أمام نفسه أولاً، والتي تجعله قاصراً أمام الآخرين ثانياً، وكلما يواجهه الآخرون بحقيقته وقصوره الفسلجي يواجه نفسه بقسوة ومباشرة حيث يصف نفسه.

(ريتشارد: أنا الأعرج المشوه بصورتي هذه) (2، ص461).

لأن تفرده بنفسه وانزواءه مع قصوره خاصة وأن (وجود مثل هذا العضو القاصر يؤثر دائماً في حياة الشخص النفسية لأنه يحقره في نظر نفسه ويزيد شعوره بعدم الأمن) (4، ص 595).

كما ويؤثر أيضاً على سلوكه مع نفسه ومحيطه؛ لأنه يولّد حالة من القلق وعدم الاطمئنان على مصيره في عالم يتصارع معه ويضمر له الشر (هذا الشعور بعينه هو الذي يدفع ألفرد إلى بذل المزيد من الجهد لتعويض هذا الشعور بالقصور) (4، ص595). وأن يمارس ويحقق هذا التعويض في محيطه على صعيد الأفراد الذين يقاسمونه العيش. ولكن هذا القصور الفسلجي لا بد أن يصاحبه نقص في السلوك وفق تقاليد المجتمع وأعرافه. لا سيما إذا كان (الشعور بالنقص الناشيء عن قصور عضوي أو عدم كفاية في المحيط أقوى من المعتاد، فحينها قد تنشأ أنواع الاضطرابات والتغيرات الجسدية والعاطفية والعقلية التي تظهر بكل عوارض عصابية وذهانية) (5، ص241) فهذه الاضطرابات والتغيرات حالة طبيعية بالنسبة للمصاب بشعور النقص، إذا كانت تحافظ على قوام المجتمع وتنظيماته السلوكية ولكن إذا حاولت - الشخصيات المريضة - ان تغير النظم والنواميس الاجتماعية والاخلاقية فهي بلا شك تسبب حالة شاذة، وتكرارها يتحدد ويشخص كونه مرضاً ينبغي علاجه، ويتأكد من ذلك إذا كان (النقص في أحد الأعضاء يظهر ذاته في تأثيره العام في النفس في أثناء عملها والفكر والأحلام ومن اختيار المهنة وفي الميول الفنية والمقدرات (5، ص931).

وبقدر ما تكون الحالة معزولة عن تأثيرها الاجتماعي تكون طبيعية، خاصة إذا تصرفت تصرفاً طبيعياً وتحولت إلى سلوك إيجابي، لأن (تقدم الفرد ونموه وتطوره ينتج من محاولة تعويض نقائصه سواء أكانت تلك النقائص حقيقة أم خيالية) (3، ص07).

وقد (أوضح أدلر أن الأجزاء أو أعضاء الجسم التي فيها عيب تؤثر في نمو الشخصية من خلال محاولات الفرد وجهوده للتعويض عن النقص) (3، ص17). وخير مثال على ذلك القائد نابليون الذي كان قصير القامة، وشخصية شيشرون الذي كان يتلعثم في نطقه وأصبح فيما بعد أعظم خطيب في روما كلها، لأنه استطاع أن يوظف قصوره توظيفاً إيجابياِ وتفوق بذلك على ذاته المريضة والآخرين، وهنا لا بد أن نشير إلى أن النقص ليس بحدود الشخصية بل هو عامل مؤثر من الممكن أن يكون دافعاً لتحسين النوع الإنساني إذا فكرنا به، ليس من منطلق فردي بل من منطلق حاجة النوع الإنساني إلى الرقي في نواحي العلم والمعرفة والسمو الأخلاقي (فهذا الشعور بالقصور الذي يوجد مع الإنسان في بداية الحياة هو الذي يحفظ للإنسان بقاءه وحياته عبر الأجيال) (42، ص 695). لأنه مطلوب منه أن يتكامل ليتناسب مع تكامل قوانين الطبيعة والعلم، وإلا أصبح نوعاً متخلفاً وغير منسجم وربما قابلاً للانقراض. فهذا القصور الحضاري دافع كبير للنوع وتجاوز الفرد لذاته ودمجه بالذات الكلية للمجتمع، ولكن أدلر يرى أن (القصور مرادف للأنوثة بينما القوة ترادف الرجولة) (42، ص 695). وهذا ما كان واضحاً في شخصية ريتشارد الثالث في علاقته مع أمه الملكة ودوقة يورك وزوجته ليدى آن حيث كان يعاملمها بقسوة واستصغار لشأنهما لأن (هدف التعويض كان الرغبة في السلطة التي يلعب فيها الاعتداء دوراً كبيراً) (3، ص 37). وكانت الأسرة أول الميادين المباحة التي يمارس فيها عدوانيته المريضة. وهذا واضح من (المونولوغ الاستهلالي في مسرحية (ريتشارد الثالث) الذي يصوّر شكلاً آخر من أشكال العزلة المفروضة ألا وهو العاهة الجسمانية التي تفصل بينه وبين الآخرين. وضمير المفرد المتكلم يسود المونولوغ بإيماءات بالعزلة الطوعية الناجمة عن الأنانية وحب الذات، ولكنها كلما يؤكدها تقترن أيضاً بالعزلة المفروضة عليه، عزلة العاهة) (6، ص08).

فهو محصور بين عزلتين حادتين هما الأنانية وحب الذات، مقابل العاهة الأولى التي تخصه، أما نفسه، مرآته العاكسة والثانية في تعامل الآخرين معه من خلال عاهته وكلاهما مرتبط بالأخرى فهي منعزلة، إنها طفح الذات، وفعل طبيعي للعاهة الخارجية، فكلما كان خارج الفرد غير جميل، تتضخم الدواخل بشكل سلبي، وهذا ما حدث لريتشارد في حالة قصوره، فذاته صارت انعكاساً سلبياً لمكوناته الخلقية المشوهة، حتى تضخمت وصارت أنانية مريضة حادة.

2- السيطرة (الكفاح من أجل التفوق)

الجرائم البشعة التي اقترفها ريتشارد الثالث والطرق الملتوية التي سلكها لتحقيق أهدافه السلطوية وإرادة السلطة كانت (الحافز نحو التفوق وتأكيد الذات) (1، ص242).

ولكن التفوق كان سلبياً عدائياً وتحقيق الذات صار فعلاً للجريمة؛ لأنه نتاج العاهات، حيث قام ريتشارد بقتل أخيه وأبنائه بتخطيط منه، وقتل ابن عمه الذي كان يتعاون معه في ارتكاب الجرائم (غير أن هذه العاهات بالنسبة لشكسبير هي أكثر من نذير بالشر: إنها رموز الشذوذ الذي فُطِرَ عليه ريتشارد، الصورالخارجية لفساده الداخلي إنها صفة جسدية، تضعه مكرهاً بعيداً عن الناس، وفي ذلك انعكاس للوحدة الداخلية التي ينميها طائعاً بحفاظه على أفكاره لنفسه ورفضه الاعتراف بالعُرى الاجتماعية التي تربط الناس ببعضهم) (6، ص18).

وكان ذلك واقعاً تحت تأثير الشعور العام بالقصور الذي يولد به الإنسان، والعمل المستمر نحو تحقيق هدف السيطرة والتفوق) (4، ص106).

إن الشعور بالقصور أصبح حالة مرضية عند ريتشارد، مما جعله يعاني ويجعل من القصور مرادفاً للتفوق كتعويض عن حالة القصور التي جُبِلَ عليها (ولكن هذا الشعور بالقصور لم يستطع التنفيس عنه من خلال العلاقات السوية المحيطة به، ولذلك تحولت إلى عقدة و(العقدة النفسية بالذات تُثير، على نحو أوتوماتيكي رد فعل قوي على شكل حافز مُلّح نحو التفوّق (1، ص442) لذلك كان سلوكه دموياً ورد فعله سريعاً، وذلك لوقوعه تحت تأثير الحافز الملُح الذي يطالبه بالتفوق على الأقران وتحقيق أهدافه الشريرة المرتبطة بحالة القصور.

إن طموحه في أن يصبح ملكاً ويأتمر بأمره الآخرون، هو إثبات بأن القاصر يمكنه أن يدير دفة المملكة والحكم أسوة بالأسوياء؛ لأن الإنسان وحسب استنتاج أدلر (كان يبحث عن القوة) (4، ص 895).

والسلطة التي تحققت لريتشارد هنا هي بلوغه السلطة السياسية دون تسلطه على ذاته التي يطغى عليها شعوره بالنقص.

وظل مطلب تحقيق الذات وتأكيدها هو الحافز للفعل والسلوك حتى بلغ قمة العرش؛ لأنه في الوقت الذي كان ينتهج طريق الشر كوسيلة لتحقيق ذاته القاصرة أصبح هذا الطريق هو الوسيلة والغاية لأنه دخل في مقومات شخصيته وتكوينها (فالقصور البدني في مثل هذه الحالات يعطي قوة إضافية ونشاطاً تعويضياً لبلوغ هدف ما يؤدي إلى السيطرة والتفوق داخل الذات) (4، ص206).

وعليه، فإن القصور يخلق مسافة شعورية بين الشخص القاصر والآخرين، ولا يمكن ردم هذه الهوة - حسب اعتقاد القاصر - إلا بالقيام بعمل ما، من شأنه أن يرفع من قدرهِ في عيون الآخرين الأسوياء ومشاعرهم، ولا يهم نوع الفعل، فهو يتراوح من الجريمة إلى الأفعال السامية، بقصد تحقيق ذات أشمل وأكبر، حتى يمكن الإحساس بها والإشارة إليها من قبل الآخر، وبالتالي تتحول الرغبة في السيطرة والتفوق إلى حالة مرضية إذا لم تكن تسير في الحدود الطبيعية لمقومات الشخصية الإنسانية السوية.

3- أسلوب الحياة

انتهج رتشارد الثالث أسلوباً عدوانياً في حياته لتحقيق مآربه الأنانية، فتارة يكذب وأخرى يخادع وثالثة يقتل ويزّيف الحقائق، فهو الذي يقول عن نفسه قبل أن يصبح ملكاً:-

(دوق جلوستر إني اقترف الأثم وأبدأ بالشكوى

واتهم الآخرين بأشنع ما دبرت من شرور) (2، ص681)

لقد تدرج في أسلوب حياته بدءاً من الكلام الخادع المنمق والكاذب إلى أن أصبح مجرماً وقاتلاً بالفعل، فتحول من القصد والهدف إلى الفعل، وامتد تأثير فعله العدواني حتى صار له شركاء وأعوان في الجريمة و(من أجل أن يبلغ السيطرة على مشاعر القصور عنده فمن الضروري أن يتخذ أسلوباً محدداً في حياته) (4، ص995).

ومن مظاهر ذلك السلوك خداع المظاهر الخارجية له وزيفها، فيقول:ـ

(دوق جلوستر: المظهر - علم الله - قليلاً ما يتعلق مع طوية القلب، بل إنه قد لا يتفق معها أبداً ) (2، ص 232)

وحول كذبه وتاليبه أبناء أسرته وفتنهم بعضهم بعضاً يقول:ـ

(جلوستر، فلا دخل الآن لأزيده بغضاً لكلارنس بأكاذيب مدعمة أحسن تدعيم بالحجج القوية) (2، ص 641)

ويتعدى تزييفه لحقيقة شخصيته وأهدافه إلى الذي كان عنصراً مهماً وموثراً في تزكية سلوك الإنسان وسمو أخلاقه. ومما يقوله بخصوص تستره بالدين.

(جلوستر: وهكذا استشرى المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المفضوح

بخرق أسرقها من الكتاب المقدس

فأبدو كالقديس وأنا أمضي في تمثيل دور الشيطان) (2، ص851).

لا شك في أن اعتلاله البدني وقصوره هو الذي بلور سلوكه لأن (علته البدنية كانت الوسيلة الكبرى في تشكيل أسلوب حياته) (4، ص106) هذا الأسلوب الذي كان مقيتاً من قبل الآخرين لكنه محبّب لريتشارد نفسه؛ لأنه أصبح طريقه إلى النجاة والحفاظ على شخصيته من الاندثار وتحقيق أهدافه.

ويتخذ (هذا التعويض أحياناً أشكالاً من العنف تبلغ حداً متطرفاً لا تنتظره منه، وهو ما يعرف باسم التعويض النفسي الزائد) (4، ص595).

إن زيادة التعويض النفسي تؤدي إلى خلاف مع المحيط الاجتماعي، وتظهر في أكثر الأحيان على نحوٍ عدائي وبجريمة تنتهي بالدم، حيث يقول ريتشارد:ـ

(ريتشارد الثالث: ولكني قد انغمست الآن في الدماء

ولا بد أن تدفع الخطيئة إلى الخطيئة،

ولا مكان لدموع الرحمة في عيني) (2، ص792).

إن السيطرة والنجاح الذي حققه ريتشارد الثالث على أعوانه وأهله من آل يورك هو حالة تعويض عن الحالة القاصرة التي يحددها بالضرورة (أسلوب حياة الفرد والطريقة التي يهدف بها الفرد إلى تحقيق السيطرة) (4، ص795) وهناك ثلاثة عوامل يعتبرها أدلر من أهم العوامل التي تؤثر في السلوك، وهي:-

1- القوى البيئية

2- العوامل الاجتماعية

3- التنشئة الاجتماعية للفرد) (4، ص995).

ونلاحظ ارتباط هذه العوامل جميعها بالعالم الموضوعي والمحيط. حيث كانت علاقة ريتشارد بكل هذه العوامل السالفة الذكر علاقة سلبية. ويمكننا أن نفسر الكثير من سلوكه على ضوء أسلوب الحياة، فكان مبدأه في التعامل يتشابه إلى حد كبير مع فلسفة ميكافيلي، من أن الغاية تبرر الوسيلة، وهذا يدخل من باب التفسير السياسي والآيديولوجي للشخصية.

ولكن لو لم تكن هذه العوامل ذات تأثير سلبي على ريتشارد، أي لو أنها تبدلت وعاش فيها ريتشارد، لتغير أسلوب حياته ومن ثم سلوكه (فمع تغيير البيئة واختلاف الذوات الداخلية يختلف أسلوب حياة الأفراد) (4، ص006).

نحصل على شخصية سوية تسلك مسلكاً صحيحاً، ولكن عند ذاك نفقد هذه الشخصية العميقة المؤثرة في تكوينها الجسماني وأسلوب حياتها الذي صار درساً يبتعد عنه كل ذي عقل راجح.

4- الذات الخلاقة

حينما يعاني المرء من عوق ما يصاحب ذلك العوق انفعالات مدمرة، وهذا أمر طبيعي للغاية (وقد تشمل هذه الاستجابات مشاعر اليأس والقلق حول المستقبل وفقدان تقدير الذات) (7، ص002).

وبذلك يصبح إزاء هذه الانفعالات أمر حتمي بحكم قوانين الطبيعة والمجتمع، ولا يمكن تحديد صورة الانفعالات إذا كانت حبيسة الدواخل، لكن الاستجابة لا تتحقق - العدواني منها والسليم - إلا بوجود الآخر الإنسان، الحيوان الطبيعة، وحتى الجماد أحياناً وحسب التفاعل معهم، إذ إن كثيراً من الشخصيات المعاقة فسلجياً أو المشوهة خلقياً تكتم عدوانيتها بطريقة وأخرى أمام آخر مسالم يحاول أن يحتوي عدوانيتها وشرها، وبالعكس تستمر العداوة في حالة الآخر المشاكس.

وإذا لم تجد العدوانية المساحة الكافية التي تتفجر فيها. فإنها تتحول إلى داخل الذات. وهنا تتصاعد العدوانية داخل الفرد وتتحول إلى وسط تعذيب هادىء، لذلك أصبح إيمان ريتشارد بالقصور هو (الحافز الرئيس الذي يدفعه إلى محاكاة قدرات الآخرين) (4، ص595).

فحاول الانتصار عليهم عبر وسائل وأدوات شتى وراح يخطط لنفسه بالسر دون أن يعلن مشروعه لأحد، وكان يبغي التفوق عليهم لسد النقص الفردي بحالة تعويض اجتماعي كبير، فهو تجاوز الفردي نزوعاً إلى السلطة والحكم؛ لأنه المطلب الوحيد الذي يسد القصور الذي ناقشه مع دواخله والذي يفرض من خلاله على الآخرين حاجتهم إليه كرجل سلطة يمتلك الأمر والنهي وتقرير مصائر الآخرين.

(ولكي نفهم الفرد أصبح لزاماً علينا اكتشاف الهدف الذي يرمي إليه في الحياة، وكما يدعي أدلر فإن هذا الهدف يظهر في كل فعل منفرد يقوم به الفرد) (1، ص 342) سوياً كان أو معتلاً. فعلى الرغم من أننا لا نشاطره أهدافه اللاحقة التي كان يصير إليها لكننا لا ننكر رسمه الطريق الذي يسلكه، حيث كان عميقاً ومخططاً له تخطيطاً ذكياً وخلاقاً. فهو إلى جانب الذوات المحيطة به كان أكثرها خلقاً لذاته بتحقيق أهدافه ورسمه للوسائل التي توصله إلى أغراضه وأطماعه خاصة وأن الذات الخلاقة هي (ذات مبدعة تخلق شيئاً لا على غرار سابق تخلق شخصية فريدة فهي إذن ذات خلاقة) (4، ص406). حيث تتحقق لا من تفرد حاملها فحسب بل ومن ضعف قدرات الآخرين المحيطة بها؛ لأنهم سلكوا طرقاً واستخدموا وسائل بالية في التعامل مع جديد الأحداث والوقائع. وفعلاً هكذا كان ريتشارد في خلقه وتحقيقه وتأكيده لذاته في وسائل حياته وأهدافها. حيث كانت الذات الخلاقة له (يمكن أن يعني ذلك موقفاً لا اجتماعياً قوياً عندما يصبح الشخص الذي لم يؤكد ذاته من خلال إنجازه الموجب مثار انتباه الآخرين بوساطة سلوكه الحياتي المضاد للمجتمع) (1، ص ص 542).

إن تحقيق ذات ريتشارد صار على حساب المجتمع لبلوغه أهدافه بوسائل غير نزيهة، فالكذب والنفاق والقتل كانت وسائله التي تشبث بها لتحقيق مآربه، لذا ارتبطت ذاته بسلوك جنائي معادٍ للمجتمع.

ولو اقتصرت دوافع (ريتشارد على عوقه فحسب، لما استطاع أن يخطط بهذا الشكل البارع؛ لأنه كان يحمل في داخله ذكاء ودبلوماسية خارقة، وكان ريتشارد الثالث يشبّه نفسه بمكايافلي، وهو أمير حقيقي، إنه، في أي حال، أميرٌ قرأ كتاب (الأمير). السياسة له بمكافيلي، فن غايته الحصول على السلطة، السياسة لديه لا صلة لها بالأخلاق، شأنها شأن فن بناء الجسور، أو المبارزة بالسيف) (8، ص 45).

وعلى هذا الأساس، فإنه كان يجمع شخص المعوق، زائداً السياسي، مضافاً إليها بعده عن القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الملوك والقادة، لكنه فقدها فوقعت الجريمة.

5- الأهداف الوهمية

إن سعي ريتشارد المحموم نحو تحقيق ذاته المعتلة وتأكيدها بأساليب غير مشروعة، جعله منجراً لذاته، أي أن نفسه صارت وسيلة دنيئة لتحقيق الأهداف، بمعنى أن أهدافه تجاوزت ذاته وأذلتها؛ لأن تلك الذات التي تحققت بالسيطرة على الآخرين وخلصت إلى تحقيق الهدف المرسوم لم تعد كافية لتغطية الطموح المستجد في مسيرة البطش (لأن السيطرة لا تعني فرض السيطرة على الآخرين وإنما يعني به السيطرة على الذات) (4، ص 895) التي انفلتت عند ريتشارد من عقالها وراحت تبحث عن أهداف أخرى تجاوزها في مسيرته العدوانية الأولى. فبعد أن حقق الأهداف التي أوصلته إلى العرش تولدت أهداف أخرى تحتاج إلى مخططات جديدة، ربما كانت وهمية إلى حد كبير بحيث طغت على شخصيته، وقادته نحو الهاوية (وهكذا تسير العملية من مشاعر القصور إلى محاولة تعويض وبذل جهد لبلوغ أهداف جديدة ومستوى جديد)، (وقد تكون أهدافاً فعلية أو وهمية وهذا جوهر الحياة) (4، ص695).

فإن كان الإنسان سوياً فإنه يبحث عن الأهداف التي يمكن تحقيقها فعلاً؛ لأنها ستكون في متناول يده لتحقيقها، وبالتالي يمارس ذاته عملياً من خلال هذا الواقع دون المساس بأحد. أما بالنسبة لريتشارد فقد انتقل من الأهداف الفعلية التي تحققت على أرض الواقع (قتل، طموحات، صعود غير مشروع للسلطة.. الخ) إلى الأهداف الوهمية التي راح ضحيتها (والهدف قد يكون وهماً وخيالاً؛ لأنه بعيد عن الواقع، كما أنه قد يكون بعيد المنال بالنسبة للذات الخلاقة التي تهدف إلى السيطرة) (4، ص506).

ويرتبط الوصول إلى هذه الأهداف (باللجوء إلى ما لا يحصى من الحيل والوسائل) (5، ص441).

وفعلاً هذا ما قام به ريتشارد في ابتكاره وسائل الخداع والتزييف العديدة لبلوغ أهدافه التي كان دافعها الأساسي الإحساس بالقصور (لأن الإنسان يهدف فحسب إلى السيطرة والرغبة في السيطرة تبزغ من الإحساس بالقصور أو العجز أو عدم الكفاية) (4، ص 895).

ونلاحظ أن القصور يشكل تأثيراً كبيراً على سلوك الشخص وأهدافه في حالة التعويض (وليس ثمة شك أن مثل هذا التعويض للقصور البدني لا يتم بطريقة آلية وبسيطة بل قد يبذل الفرد جهوداً مضاعفة من أجل بلوغ أهدافه) (4، ص206) سواء أكانت الأهداف فعلية أو وهمية، فالمهم رسوخها في الذات؛ لأن ذلك يولد الإيمان بها ويدفع إلى ضرورة تحقيقها، ولأنها سترتبط بالذات وتصبح العنصر المحرك في كيان الفرد لبلوغ أهدافه، لا سيما وأن السلوك مرتبط بغاية على اعتبار (أن السلوك البشري هو غائي، النفس مصممة باتجاه هدف ما عن طريق حركات) (5، ص641).

تلك التي كانت فاضحاً لأهداف ريتشارد ومسالكه الملتوية، فحركاته تضم إشارات وإيماءات تفضح هذا السلوك العدواني مثل محاولته الانتحار بسيف ملتوٍ (فإن الإنسان تحركه توقعاته للمستقبل أكثر مما تحركه خبرات الماضي، فالمستقبل هو الذي يشكل ما سوف تفعله ذاته الخلاقة في أي لحظة معينة) (4، ص406). مستقبلاً، أما الماضي فهو الخزين الذي يوفر أساليب التحرك، و
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://brahimi.forumarabia.com
 
نظريّة النَّصّ عند.. رولان بارت(4)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» المدخل إلى نظريّة النّقد النّفسيّ ، سيكولوجيّة الصّورة الشّعريّة في نقد العقّاد نموذجا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مكتبة الأنيس بالجلفة بحوث مذكرات و رسائل التخرج الجامعية الجاهزة :: منتدى الجامعة والبحث العلمي :: مندى الادب العربي-
انتقل الى: